ثم هو يخرج على وجهين :
أحدهما : ما ذكر أهل التأويل من حقيقة الإعراض ؛ تكبرا وتعظيما لأنفسهم ، [و] استخفافا بالناس واستحقارا لهم ؛ لما لم يروا الناس أمثالا لأنفسهم ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) على حقيقة المشي على التكبر والتجبر ، على ما ذكرنا.
والثاني : ليس على حقيقة الإعراض بالوجه عنهم ، ولا على حقيقة المشي بالأقدام ؛ ولكنه كناية عن الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترك لذلك ، لا على التكبر والتجبر عليهم والاستخفاف بهم ، ولكن على الحذر والخوف منهم.
فإن كان الامتناع والإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ فلم يعذروا في ترك ذلك ؛ لما يحذرون ويخافون منهم.
وكذلك يخرج قوله : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) على الوجهين اللذين ذكرناهما :
أحدهما : على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت : حقيقة المشي وحقيقة الصوت.
والثاني : على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها فيما بين الناس.
فإن كان على حقيقة المشي والصوت ، فكأنه يقول : أي اقصد في المشي في الناس ، ولا تمش متكبرا مستخفا بهم ؛ لتؤذيهم ، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) ، أي : لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت ، ولكن لينهم بالقول.
وقال بعضهم : امش هينا لينا ، ناكس الرأس ، ناظرا حيث تمشي ، غير ناظر إلى ما لا يحل ولا يسع ، ولا رافع صوتك على الناس فتؤذيهم ؛ فيكون صوتك عندهم كصوت الحمير الذي ذكر ؛ فينكرونه كما ينكر صوت الحمير.
وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة فيما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله ؛ ولكن كونوا في ذلك عادلين قاصدين غير طالبين العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله.
وقوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
يحتمل وجهين :
أحدهما : ما ذكرنا ، أي : لا ترفع صوتك على الناس فتؤذيهم كما يؤذي الحمار ؛ فيكون صوتك عليهم كصوت الحمار.
أو يذكر هذا ؛ لأن الحمار إنما يصيح لحاجة لنفسه وشهوته ، وسائر الأشياء إذا صاحوا