ولكن غير هذا كأنه أشبه بسبب نزوله وذكره ، وهو يخرج على وجهين :
أحدهما : ما ذكرنا في قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أنه بلغ ملكه وسلطانه ما لو صار ما ذكر من الأشجار كلها أقلاما والبحار كلها مدادا ، فكتب بها أسماء خلقه وملكه وسلطانه لنفذ ذلك كله ، ولم ينفذ خلقه ولم يبلغوا غاية ذلك.
أو ذكر هذا لهذا القرآن ؛ لقول كان من الكفرة في قلته في نفسه وصغر ما كتب هو فيه أن يقولوا : كيف يسع في هذا المقدار علم الكتب السالفة المتقدمة ، وهي أوقار وهو جزء؟! فيخبر ـ والله أعلم ـ : أنه جمع في هذا من المعاني والعلم والحكمة ما لو فسره وبين ما أودع فيه وضمنه ، ما لو جعل ما في الأرض من الشجر أقلاما والبحار مدادا ، فكتب ما أودع فيه وضمنه ـ لنفذ ذلك كله ولم ينفذ ما جمع فيه وضمنه ، هذا ـ والله أعلم ـ : يشبه أن يكون تأويله وسبب نزوله ، والله أعلم بذلك.
(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).
قال بعضهم : ذكر هذا ؛ لأن نفرا من قريش قالوا للنبي : إن الله خلقنا أطوارا : نطفة ، علقة ، مضغة ، عظما ، لحما ، ثم تزعم أنا نبعث خلقا جديدا في ساعة واحدة؟! فقال الله ـ عزوجل ـ : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) أيها الناس جميعا على الله في القدرة إلا كبعث نفس واحدة.
(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) ، لقولهم الذي قالوه : إنا لا نبعث ، (بَصِيرٌ) ، بأمر الخلق والبعث.
وجائز أن يكون قال هذا ، لما قد أقروا ببعث نفس واحدة لما انتهى إليهم [من] الأخبار عما كان في الأمم السالفة من الإحياء بعد الممات وتواترت على ذلك ، من ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٣] ، وكقولهم ـ حيث قالوا ـ : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ...) الآية [النساء : ١٥٣] ، وكقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [البقرة : ٥٦] ، وقوله : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [البقرة : ٢٥٩] فكأنهم أقروا ببعث هؤلاء لما تواترت عليهم الأخبار بذلك ، وأنكروا بعث سائرهم ؛ فقال : ما خلقكم ولا بعثكم جميعا إلا كبعث نفس واحدة : إذا ثبت لواحد ففي الكل كذلك.
أو أن يذكر هذا ؛ لأن الأسباب إنما تختلف في الأمور على الخلق وتعسر لخصال ثلاث : إما لعجز ، أو لجهل ، أو لشغل ، فإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن أن يعجزه شيء ، أو يخفى عليه شيء ، أو يشغله شيء ؛ فصار خلق الكل عليه وبعث الكل كخلق نفس واحدة وكبعث نفس واحدة.