كله التسرب والانحدار ، وما ذكر من إجرائها بالريح الطيبة ، ولو كان فعل عدد لا فعل واحد لكان يمنع عن جريها ، دل أنه تدبير واحد لا عدد.
وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
جائز أن يكون الصبار هو المؤمن ، والشكور كذلك ، الصبر كناية عن الإيمان ، والشكر كناية عن الإيمان ؛ كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] ذكر الصبر مكان قوله : (آمَنُوا) ؛ لأنه ذكر في آية أخرى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الشعراء : ٢٢٧] ، والشكر كناية عن الإيمان ؛ كقوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧] ، وقوله : (تَشْكُرُوا) ، أي : تؤمنوا.
ويحتمل : (صَبَّارٍ) على بلاياه ، و (شَكُورٍ) على نعمائه.
أو جعل الآيات لمن ذكر ؛ لأنه هو المنتفع بها دون غيرهم.
أو (صَبَّارٍ) فيما أصابهم في البحر من الشدائد والأهوال ، و (شَكُورٍ) فيما دفع عنهم وأنجاهم من تلك الأهوال ، والله أعلم.
وقوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ).
قال بعضهم : (كَالظُّلَلِ) ، أي : كالظلل : هو سواد من كثرة الماء ومعظمه.
وقيل : يصير الموج كالظلمة فوق السفينة.
وجائز أن يكون الظلل التي ذكر على التمثيل لا على التحقيق ؛ كناية عن حيرتهم في الدين ، كقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] ، وهو على المثال لا على التحقيق ، يخبر عن حيرتهم في الدين وتيههم فيه ؛ فعلى ذلك الأول.
ثم يذكر أهل التأويل أن الآية في أهل الكفر : كانوا يخلصون الدعاء لله والدين له : عند ما اشتد بهم الخوف على الهلاك عند معاينتهم الأهوال والشدائد في البحار ؛ لأن أهل الإسلام يخلصون له الدعاء والدين في الأحوال كلها فهي فيهم.
وقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ).
قال بعضهم : (١) (مُقْتَصِدٌ) ، أي : حسن القول بلسانه كافر بقلبه.
وقال بعضهم (٢) : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ، أي : عدل ، أي : بقي على الإيمان والإخلاص
__________________
(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٨١٥٨) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٢٤).
(٢) قاله البغوي (٣ / ٤٩٥).