وهذا يشبه أن يكون سبب نزول الآية ، أو أن يكون نزولها في المنافقين ، وذلك أنهم كانوا يصلون مع النبي والمؤمنين ، ويرون الموافقة لهم من أنفسهم ، ويقولون : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] ، ثم يرجعون إلى أولئك فيقولون : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ونحوه ؛ فذكر هذا : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، أي : دينين في جوفه : الإيمان والنفاق ، أو (قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : قلبا لهذا ، وقلبا للآخر.
أو نزلت في المشركين الذين يقرون بالوحدانية لله ، وأنّه هو الخالق ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ، ويعبدون الأصنام مع هذا ؛ فيقول ـ والله أعلم ـ : لم يجعل لرجل قلبين في جوفه : قلبا للشرك ، وقلبا للإيمان والتوحيد ؛ ولكن جعل قلبا واحدا لأحد هذين ، أي : قلبا لقبول الشرك ، وقلبا لقبول الإيمان.
وبعضهم يقول : هو على التمثيل ، أي : كما لم يجعل لرجل واحد قلبين ؛ فكذلك لا يكون المظاهر من امرأته : لا تكون امرأته أمه في الحرمة ، ولا يكون دعيّ الرجل ابنه ، يقول : نزلت في النبي وزيد بن حارثة ، كان النبي تبناه ، [و] كانوا يسمونه زيد بن محمد ، فجاء النهي عن ذلك ؛ فقال : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل (١).
وبعضهم يقول : تأويل قوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ).
أي : لم يجعل للرجل نسبين ينسب إليهما.
وأصله عندنا : أن قوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : ما ذكرنا ، ولم يجعل أزواجكم اللائي تستمتعون بهن بالتشبيه بالأمهات كالأمهات ، أي : لم يحل لكم ذلك ولم يبح ولم يشرع. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، أي : لم يجعل سبب ذلك ولم يشرع ، وإن كان قد يكون في النسب الفاسد ، نحو الجارية بين اثنين إذا ولدت فادعياه جميعا ، ونحو النكاح الفاسد ، والملك الفاسد ، لم يجعل كذا ، أي : لم يحل ولم يشرع ؛ كقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] ، أي : لم يشرع ولم يحل ذلك ، وإن كان يكون لو فعلوا ؛ فعلى ذلك قوله : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) ، أي : لم يشرع ذلك السبب ، ولم يحل ذلك في الإسلام ما كان في الجاهلية ، لا أنه لا يكون ذلك فيما لم يشرع في الفاسد من السبب ، على ما ذكرنا : أن النسب ثبت في النكاح الفاسد ، وإن لم يشرع.
والحسن يقول في قوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال : كان الرجل
__________________
(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٢٥) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤٨) ، وهو قول ابن زيد أيضا.