يحتمل هذا وجهين :
أحدهما : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، أي : ضمنت أجورهن وقبلت ؛ ويكون الإيتاء عبارة عن القبول والضمان ؛ وذلك جائز نحو قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] هو على القبول ، تأويله : فإن تابوا وقبلوا إيتاء الزكاة ؛ فخلوا سبيلهم ، هو على القبول والضمان ليس على فعل الإيتاء نفسه ؛ إذ لا يجب إلا بعد حولان الحول ، وكذلك قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) [التوبة : ٢٩] إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) [التوبة : ٢٩] ليس على نفس الإعطاء ؛ ولكن حتى يقبلوا الجزية ؛ إذ الإعطاء إنما يجب إذا حال الحول ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، أي : قبلت أجورهن وضمنت.
والثاني : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي) هن لك إذا (آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، أي : قبلت ؛ معناه : إنا أحللنا لك إبقاءهن إذا آتيت أجورهن.
وفيه دلالة : أن المهر قد يسمى أجرا ؛ فيكون قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٤] ، أي : مهورهن ؛ فيكون الاستمتاع بهن استمتاعا في النكاح ؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ؛ فيكون الخلوص له بلا أجر لا بلفظة «الهبة» ؛ لأنه ذكر على أثر ذكر حل أزواجه بالأجر ؛ كأنه قال : إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وأحللنا لك ـ أيضا ـ امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بلا أجر خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر ؛ لأن خلوص الشيء إنما يكون إذا خلص له بلا بدل ولا مئونة ، فأما أن يكون الخلوص بلفظة دون لفظة فلا.
وبعد فإنه قد ذكر في آخر الآية ما يدل على ما ذكرنا ؛ وهو قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) ؛ دل هذا أن خلوص تلك المرأة له ب «قد ...» ؛ فإن ذكر هذا له خرج مخرج الامتنان عليه ؛ فلا منة له عليه في لفظة «الهبة» ، ليست تلك في لفظة «التزويج» ، يقول مكان قوله : (وَهَبَتْ) : «زوجت» ؛ دل أن المنة له عليه فيما صارت له بلا مهر ، لا في لفظة «الهبة».
أو أن يكون قوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في الآخرة ، أي : لا تحل لأحد سواك إذا تزوجتها وصارت من أزواجك ، فأمّا أن يفهم من قوله (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) بلفظة «الهبة» فلا ؛ إذ لا فرق بين أن تقول : «وهبت» ، وبين أن تقول : «زوجت».