قد ذكرنا في غير موضع فائدة تخصيص ذكر المصير إليه والمرجع إليه في ذلك اليوم ، وإن كانوا صائرين إليه في كل وقت.
وقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).
ضرب هذا المثل يخرج على وجوه :
أحدها : شبه الأصنام التي كانوا يعبدونها بالأعمى والظلمة والميتة والحرور حقيقة ؛ لأنها كذلك عميان موتى لا نور فيها ؛ يقول : والله إنكم تعلمون أن الذين تعبدون من دون الله عميان لا بصر لهم ولا نور ولا حياة ولا شيء من ذلك ، وأن الله هو البصير ، ومنه يكون كل خير ونفع ، فكيف اخترتم عبادة من هذا سبيله على عبادة الله تعالى؟! وبالله الهداية والعصمة.
والثاني : شبه أولئك الكفرة بالعميان والظلمة والموت وما ذكر ، والمؤمن بالبصير والنور والظل والحياة ، ليس على إرادة حقيقة البصر والحياة وما ذكر ؛ لأن لهم بصرا يبصرون وهم أحياء فيقولون : نحن البصراء والأحياء ، وأنتم العميان والأموات ، وما ذكر ، لكن شبههم بالعميان والموتى ؛ لأنه لا حجة لهم ولا برهان على عبادتهم الأصنام ، وهم يعلمون أنه لا حجة لهم ولا برهان على ذلك من كتاب أو رسول أو نحوه ، إنما هو هوى يهوون ذلك ، وللمؤمنين في عبادتهم الله حجة وبرهان ، فمن كان له حجة في عبادته فهو بصير حيّ نور ، ومن ليس له ذلك فهو أعمى ميت.
والثالث : يذكر هذا دلالة على البعث ؛ لأنهم يعلمون أن الخلق ليس كلهم على حدّ واحد وحالة واحدة ، بل فيهم العميان والبصراء وفيهم الأحياء والأموات وفيهم ما ذكر ، وقد استووا جميعا في منافع هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهم لا الجمع ، فلا بدّ من دار أخرى سوى هذه يفرق بينهم ؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق لا الجمع ، والله أعلم.
وقوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).
دل قوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) على أن قوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) إنما أراد به الكافر ، ثم أخبر أن رسوله لا يسمع لما لا يقدر على ذلك ، وليس عنده ذلك ؛ إذ لو كان بيانا مبينا أو دعاء على ما يقوله المعتزلة ، لكان يسمع ويبين ويقدر على ذلك ، فإذ لم يقدر رسول الله على ذلك دل أن عند الله لطفا وشيئا لم يعطهم ، فإذا أعطاهم ذلك اهتدوا وآمنوا ؛ وكذلك هذا في قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] ، ولو