أو أن يكون قوله : (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي : يتبعون كتاب الله فيما فيه مما لهم ومما عليهم ، يتبعون كله من الإقدام على الحلال والاجتناب على الحرام ، والمشفقون بكتاب الله هم الذين اتبعوا ما فيه من إقامة الصلاة وإنفاق ما رزقوا ، فأما من تلا ولم يتبع ما فيه فكأنه لم يتل ، وهو كما نفى عنهم هذه الحواس من البصر والسمع واللسان وغيره ؛ لتركهم الانتفاع بها وإن كانت لهم تلك الحواس حقيقة ، وأثبتها للمؤمن لما انتفع بها وإن لم تكن له تلك حقيقة ؛ فعلى ذلك يحتمل الأول ، والله أعلم (١).
وقوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً).
يحتمل قوله : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) في كل حال وكل وقت لا يتركون الإنفاق على كل حال ؛ كقوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) [آل عمران : ١٣٣ ، ١٣٤] ، أي : ينفقون على كل حال. ويحتمل : فلينفقوا مما رزقناهم (سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، أي : يتصدقون الصدقة ظاهرا وباطنا ، أي : ما ظهر للناس وعلموا به ، وما خفي عنهم واستتر ؛ لما قصدوا بها وجه الله لا مراءاة الخلق ، فمن كان قصده بالخيرات وجه الله لا مراءاة الخلق ، فعلمهم به وجهلهم سواء ، لا يمتنع عن ذلك أبدا ، والله أعلم.
وقوله : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ).
سمى ما يبذل العبد لله : تجارة ، وإن كان ذلك له في الحقيقة لطفا منه وإحسانا ، وكذلك ما ذكر من إيفاء الأجر لهم على أعمالهم حيث قال : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) ، وذلك ليس في الحقيقة أجرا لما يستوجبون الأجر قبله بتلك الأعمال ؛ لما عليهم من الشكر فيما أنعم عليهم من أنواع النعم ، ومتى يفرغون عن شكر ما أنعم عليهم حتى يكون ذلك أجرا لهم ، لكنه ـ عزوجل ـ بفضله وإنعامه وعد لهم الثواب والأجر على حسناتهم وأعمالهم الصالحات ؛ إفضالا منه وإنعاما منه ، وسمى ذلك : تجارة كأن ليس ذلك له في الحقيقة ؛ ترغيبا منه الخلق في ذلك وتحريضا لهم على ذلك ، والله أعلم.
(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ذلك أيضا.
وقوله : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).
يحتمل قوله : (غَفُورٌ) أي : ستور لمساويهم ، (شَكُورٌ) أي : مظهر لحسناتهم بإدخاله إياهم الجنة ؛ ليعلم أحد أنه كان محسنا لا مسيئا.
أو (غَفُورٌ) : يتجاوز عن مساوئهم ، (شَكُورٌ) : يقبل اليسير من العمل القليل منهم
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : فعلى هذا التأويل : يدخل تحت الآية من يعمل بالكتاب وإن لم يقرأه بلسانه ، وعلى الوجه الأول : لا يدخل ما لم يقرأه بلسانه ، شرح.