أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١)
وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ).
فإن كان المخاطبون به أصحاب رسول الله وأمته ، فيخبر أنه جعلهم خلائف من تقدم منهم من القرون والأمم الماضية بعد ما أهلكوا أو استؤصلوا ، وإن كان المخاطبون به بني آدم كلهم فيخبر أنكم خلف من تقدمكم من الجن والملائكة ؛ لأنه ذكر أن الجن كانوا سكان الأرض قبل بني آدم ، فجعلوا خلائف الجن.
ثم وجه الحكمة في جعل بعض خلائف بعض وإنشاء قرن بعد فناء آخر ، وإفناء آخر بعد إنشاء آخر وجوه :
أحدها : أن يعرفوا أنه إنما أنشأهم لعاقبة تقصد وتتأمل ؛ حيث أنشأ قرنا ثم أفناهم ، ثم أنشأ غيرهم ، ولو لم يكن في إنشائهم إلا هذا ، كان إنشاؤه إياهم للفناء خاصة ؛ إذ من بنى في الشاهد بناء للنقض والفناء لا لعاقبة تقصد به ، كان في بنائه عابثا سفيها ؛ فعلى ذلك إنشاء هؤلاء في هذه الدنيا ، لو لم يكن لعاقبة كان الإنشاء للفناء ، وذلك عبث غير حكمة.
والثاني : أن يعرفوا أن الدنيا ليست هي دار القرار والمقام ، إنما هي مجعولة زادا للآخرة ، وبلغة إليها ، ومسلكا لها ، ومنزلا ينزل فيها ؛ ثم يرتحل كالمنازل المجعولة للنزول فيها في الأسفار والتزود منها ثم الارتحال ، لا للمقام فيها ؛ فعلى ذلك الدنيا جعلت لما ذكرنا ؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يركنوا ويعملون عمل من يريد الارتحال عنها لا عمل المقيم فيها.
والثالث : أن يعرفوا أن الآلام التي جعلت فيها واللذات ليست بدائمة أبدا ، بل على شرف الزوال والتحول ؛ لأن في الحياة لذة وفي الموت ألما ، فلا دامت اللذة و [لا] الألم ؛ لأنه أحيا قرنا ثم أفناهم ثم أحيا قرنا آخر وأفناهم ، فلا دامت اللذة ولا الآلام ، ولكن انقضيا ؛ ليعلموا أنهما لا يدومان أبدا ، ولكن يزولان.
والرابع : أن يعتبروا بمن تقدم منهم من القرون : أنه على ما ذا يكون الثناء الحسن ، ويبقى الأثر والذكر الجميل؟ وبأي عمل ينقطع ويفنى ذلك؟ فمن كان من متبعي الرسل وقادة الخير والتوحيد والطاعة ، فبقي له أثر الخير والثناء الحسن والذكر الجميل ، ومن كان من أتباع أهل الكفر والشر لم يبق لهم شيء من ذلك ؛ ليعملوا بالذي يبقي لهم الثناء الحسن ويعقب لهم الذكر لا الذي يقطع ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ).
أي : عليه ضرر كفره.