والثالث : أنهم وإن ساروا في الأرض ونظروا في آثارهم لم ينفعهم ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).
أي : أنهم كانوا أكثر عددا وأشد قوة وبطشا منكم ، ثم لم يكن لهم دفع ما نزل بهم وحل ، فأنتم يا أهل مكة مع قلة عددكم وضعفكم لا تقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم.
وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).
الإعجاز في الشاهد يكون بوجهين :
أحدهما : الامتناع ؛ يقول : لا يقدر أحد أن يمتنع عنه ومن عذابه.
والثاني : القهر والغلبة ؛ يقول : لا يسبق منه بالقهر والغلبة ، بل هو القاهر والغالب على خلقه (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً).
وقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) : من المعاصي والمساوي ، (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) ، أي : على ظهر الأرض ، ووجهه : اكتفاء بما سبق من ذكر الأرض ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [فاطر : ٤١].
أو علم الناس وفهموا من ذكر الظهر : ظهر الأرض ؛ لما على ظهر الأرض يكتسب ما يكتسب.
ثم قوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) قال بعضهم : المراد بالدابة : الممتحنون المميزون وهم بنو آدم خاصة ؛ لأنهم أهل اكتساب واجتراح ؛ إذ قد ذكر الإهلاك بما يكتسبون ، وهم أهل الاكتساب دون غيرهم من الدواب.
وقال بعضهم : كل دابة من البشر وغيره ؛ لأن غيره من الدواب إنما أنشئت للبشر ولحوائجهم لا لحاجة أنفسها أو لمنفعة لها حيث قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، فإذا كان غيرهم من الأشياء منشأة لهم ، فإذا أهلكوا هم أهلك ما كان منشأ لحوائجهم ولمنافعهم ، ولا يكون إهلاك ما ذكرنا من الدواب خروجا عن الحكمة [على] ما يقول الثنوية ؛ إذ ليس من فعل الحكيم الأمر بذبح أسلم الدواب والانتفاع بلحمها.
قيل : هكذا إذا كانت تلك منشأة لأنفسها ولمنافعها ، فأما إذا كان ما ذكرنا أنها منشأة لنا ولمنافعنا فجائز الانتفاع بها مرة بعينها ومرة بلحمها ، ولا يكون فعل ذلك ولا الأمر به غير حكمة.
ثم الفرق بين إباحة الانتفاع بلحم أسلم الدواب وحظر لحم الضارة منها والمضرة ؛