في الآخر دلالة أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء ، وله قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة ، فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت ؛ إذ الإحياء بعد الموت ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا ، والأعجوبة في هذا إن لم تكن أكثر ـ أعني : في جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر ـ ليست بدون الإحياء بعد الموت ، فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته لا بإقدار من غيره ؛ فلا يعجزه شيء ، ولا قوة إلا بالله.
وأما دلالة الوحدانية فهو إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه ، وإجراؤه على مجرى واحد وسنن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا ، وهذا في هذا ـ دلالة أنه فعل واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد ، لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر ، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبه صاحبه وقهره ، وكذلك منشئ النهار إذا غلب على منشئ الليل لهم به على إتيانه بالآخر وغلبه عليه ، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو فيما أنشأه الآخر ، فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد وهو ردّ على الثنوية.
وأما دلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي هو إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله ـ أعني : حاجة أهل الدهر ـ وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغيّر وتفاوت يقع في ذلك ، أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه وينتهي حاجتهم ومنافعهم ـ دل أنه كان لم يزل عالما بحوائجهم ومنافعهم حيث أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير منافعهم ، وأن له علما ذاتيّا وتدبيرا أزليّا لا علما مكتسبا ومستفادا ، وأن له القدرة والسلطان حيث لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار ، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل ، ولا [يقدر] أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر ؛ بل أظلم الليل والخلائق كلهم ، وستر عليهم كل شيء شاءوا أو أبوا ، وأضاء لهم النهار على كل مستور عليهم ، وأداؤهم على كل مختلف شاءوا أو أبوا ـ دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك والسلطان الذاتي لا مكتسب مستفاد ؛ إذ ذا علم كل ذاتي لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال ، وهذا يبطل قول الفلاسفة : إن العقل دراك بنفسه كالنار حارة بطبعها ، محرقة بذاتها ، فلو كان يدرك بنفسه ، لكان لا جائز أن يكون ولا درك هنالك ، أو يشبه عليه شيء بوجه من الوجوه ، فإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه دراك بغيره فيدرك على قدر ما تجلى له وانكشف ، والله أعلم.
وقوله : (نَسْلَخُ) أي : ننزع منه النهار.