أمره أن يستفتيهم ، ولم يذكر أنهم ما أفتوه؟ ولا أجابوه أو لا؟ ولا قال لهم : إنهم لو أجابوك وأفتوك بكذا فقل لهم كذا أو أجبهم بكذا ؛ فجائز أن يكون الجواب ما ذكرنا : أنكم لو لم تشاهدوا خلق ما ذكر من السماوات والأرض وغيرها سوى خلق أنفسكم ثم شاهدتم خلقنا أعني ما ذكرنا من السماوات والأرض والجبال وغيرها ـ هل تنكرون قدرته على خلق ما شهدتم وعاينتم : أنه لم يخلقها إلا هو ، كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم وبعثكم؟!
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ).
فذكر ـ والله أعلم ـ ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم أنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها ، وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها ، ثم إنها مع شدتها وقوتها وصلابتها أخضع لله وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] ونحو ذلك مما يكثر ، والله أعلم.
أو أن يذكر لقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) بدء خلقهم وأصله الذي خلقوا هم منه ، إنكم إنما عرفتم ابتداء خلقكم وأصلكم الذي منه خلقتم أنه تراب أو طين بإخبار الرسل ، ويقول لهم : وأنتم يا أهل مكة ممن لا يؤمنون بالرسل ، فكيف صدقتم الرسل بما أخبروا من أصلهم وبدء خلقكم ، ولم تصدقوهم بما يخبرونكم من إعادتكم وبعثكم بعد موتكم؟! فإذا صدقتموهم في ذلك لزمكم التصديق لهم في كل ما يخبرون ويقولون ، والله أعلم.
أو يقول : إنه أنشأ من تلك النفس الواحدة التي خلقها من تراب من الخلق ما لو تركهم جميعا لم يفنهم ولم يمتهم ، لامتلأت الدنيا منها ، فمن قدر على إنشاء ما تمتلئ الدنيا منه من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء من البعث والإعادة وغير ذلك ، والله أعلم.
أو أن يقول في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ، أي : قد أنشأ من تلك النفس ومن ذلك الأصل قرنا وقرنا بعد قرن بعد إفناء كل قرن أنشأ قرنا آخر ؛ فلا يحتمل أن يكون المقصود من إنشائهم الإنشاء ثم الإفناء والنقض ، خاصة لا عاقبة تقصد بالإنشاء والإفناء ؛ إذ في الشاهد من كان مقصوده في البناء الفناء والنقض ، خاصة كان غير حكيم ، فإذا عرفتم الله ـ عزوجل ـ أنه حكيم ؛ فلا يحتمل أن يكون مراده من إنشائكم وإفنائكم ذلك خاصة لا غير وذلك مزيل الحكمة ، ويوجب السفه ، تعالى الله عن ذلك وجميع ما يصفه الملاحدة علوّا كبيرا.