وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ، أي : لمحاسبون (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) ، كأنه قال لأصحابه : هل أنتم مطلعون في النار لننظر ما حاله؟ ثم أخبر أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ)(١) ذكر اطلاعه ، ولم يذكر اطلاع أصحابه ؛ فجائز أن يكون أخبر عن اطلاع كل واحد منهم في نفسه : أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) ، أي : وسط الجحيم ، وإن كانوا جميعا مطلعين إليه فيها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [الانشقاق : ٦] ، و (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] ، وإن كان خاطب إنسانا فإنما خاطب به كل إنسان في نفسه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) إنما أخبر عن اطلاع كل منهم ـ والله أعلم ـ وكانوا جميعا مطلعين.
ثم في الآية شيئان عجيبان :
أحدهما : ما ذكر من اطلاع أهل الجنة على أهل النار أنها تكون قريبة من الجنة حتى ينظر بعضهم إلى بعض فيرون.
أو تكون بعيدة منها ، إلا أن إبصار أهل الجنة يكون أبعد وأبصر مما يكون في الدنيا ، فجائز أن يجعل الله ـ عزوجل ـ أبصار أهل الآخرة أبصر وأحد ؛ حتى لا يحجبه ولا يمنعه بعد المسافة والمكان عن النظر والرؤية ، والله أعلم.
والثاني : أن كيف يعرفه في النار مما يحرقه ويفني وجهه ولونه وجميع أعلامه وسيماه ، لكن جائز أن يكون الله ـ عزوجل ـ يعرفه بأعلام تجعل له ؛ فيعرفه بتلك الأعلام ، وذلك على الله ـ عزوجل ـ يسير هين.
وأهل التأويل يقولون : يجعل الله ـ عزوجل ـ لأهل الجنة كوى منها إذا أرادوا أن ينظر أحدهم إلى من في النار ، فتح الله له كوة ينظر إلى من شاء من مقعده إلى النار ، فيزداد بذلك شكرا ، وهو قوله : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) ، أي : في وسط الجحيم ؛ كقوله : ـ عزوجل ـ : (سَواءَ السَّبِيلِ) [المائدة : ١٢] ، أي : وسطه.
فقال : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) ، أي : هممت لتغوين ، وكذلك في حرف ابن مسعود : [مكان] لتردين : لتغوين.
وقال الكسائي : تالله ، وبالله ، وو الله ، والله ـ بغير واو ـ لغات.
يخبر أن بالله يكون على الأسف مرجعهما إلى سفاه يقول : لو لا أن الله أنعم على الهدى ، ولو لا أن الله رحمني فهداني ؛ المعنى واحد. يقول له : اترك دينك واتبعني ، وقال : (لَتُرْدِينِ) أي : لتهلكني ، يقال : رديت فلانا ، أي : أهلكته ، والردى : الموت
__________________
(١) قاله عطاء الخراساني بنحوه أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٨).