كذب أكبر منه ؛ لأن درك الأشياء ومعرفتها إنما يكون في الشاهد بأحد وجوه ثلاثة :
أحدها : المشاهدة.
والثاني : الخبر.
والثالث : الاستدلال بما شاهدوا وعاينوا على ما غاب عنهم.
ثم معلوم عندهم ـ أي : عند هؤلاء ـ أنهم لم يشاهدوا الله حتى عرفوا له الولد ، ولا كانوا يؤمنون بالرسل حتى يكون عندهم الخبر بما قالوا ونسبوا إليه من الولد وغيره ؛ إذ الخبر إنما يوصل إليه بالرسل ، وهم لا يؤمنون بهم ، ولا كانوا شاهدوا ما يستدلون على ما قالوا فيه ونسبوا إليه حتى دلهم ذلك على ذلك ، فسفههم في قولهم الذي قالوا فيه وما نسبوا إليه ، [و] إنهم كذبة في ذلك ؛ إذ أسباب العلم بالأشياء ما ذكرنا ، ولم يكن لهم شيء من ذلك ؛ ولذلك قال : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، وقال ـ عزوجل ـ : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) يقول : أأختار لنفسي ما تأنفون أنتم عنه ، وتنسبون إليه ما تستنكفون أنتم عنه ، يسفههم في قولهم ونسبتهم إلى الله ما قالوا فيه ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر ، والله أعلم.
وفيه تصبير رسول الله على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع ؛ لأنه علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم [و] قالوا فيه ما قالوا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
يحتمل قوله : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، أي : ما لكم تحكمون بلا حجة ولا علم؟
وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، أن هذا الحكم جور وظلم عظيم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢٢].
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ).
أي : لكم حجة وبيان على ما تزعمون وتقولون في الله سبحانه.
وقوله : (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : ائتوا بكتاب من عند الله فيه ما تذكرون من الولد وغيره.
وقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً).
قال عامة أهل التأويل (١) : إن الجنة هم الملائكة ؛ لقول أولئك الكفرة : إن الملائكة بنات الله ، وما قالوا في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) ، أي : علمت الجن الذي
__________________
(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٦٥٤ ، ٢٩٦٥٧) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٤٨) ، وزاد نسبته لآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ، وهو قول قتادة وابن زيد.