قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)(١٦)
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ).
قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف الاستفهام من الله تعالى يخرج على الإيجاب والإلزام مما لو كان ذلك من مستفهم حقيقة يتضمن الجواب له ، فقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) جواب لقولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) فجوابه لهم ليس عندهم رحمة ربك حتى يختاروا الرسالة والنبوة لأنفسهم أو لمن شاءوا هم ؛ كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] كانوا لا يرون وضع الرسالة إلا فيما كانت له أموال وله سعة في الدنيا وفضل مال ، فيذكر أن [ليس] عندهم خزائن ربك حتى يجعلوا الرسالة والنبوة فيمن شاءوا هم واختاروا لذلك ، قال الله ـ عزوجل ـ : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، أي : لا يملكون قسمة رحمة ربك ، بل (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) الآية [الزخرف : ٣٢] يخبر أنهم على ما لا يملكون توسيع المعيشة على من ضيق عليه ورفع من وضع ؛ فعلى ذلك ليس إليهم اختيار النبوة والرسالة لمن شاءوا واختاروا ، بل اختيار ذلك إلى الله ـ عزوجل ـ فقالوا : أإذا كنا أحق بهذا في الدنيا فنحن أيضا أحق بالرسالة والنبوة على ما [نحن] أحق في الدنيا بالسعة والفضل فيها ، بل لو عرفوا أن ما نالوا من السعة في الدنيا وفضل الأموال إنما نالوا ذلك برحمة الله وفضله لا بحق كان لهم على الله ، فلو عرفوا ، كانوا لا ينكرون وضع الرسالة فيمن اختار الله ـ عزوجل ـ وضعها فيمن شاء ، وعلى ذلك قول المعتزلة : إنهم لا يريدون لله أن يفعل بأحد شيئا إلا ما هو أصلح له في الدين ، وأنه لو فعل ما ليس بأصلح له في الدين ، كان جائرا ظالما ، فيرون حفظ الأصلح له حقّا كما رأى أولئك الكفرة السعة والأموال حقّا على الله ، فرأوا أنفسهم أحق أيضا بالرسالة والنبوة من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم.
ثم إن المعتزلة يقولون في ألم الصغار : إن ليس لله أن يؤلمهم إلا بعوض يجعل لهم بإزاء ذلك الألم عوضا يرضون هم بذلك ؛ إذ جعلوا أنفسهم له حقيقة حيث لم يجعلوا لله الإيلام إلا بالعوض ، ومن أخذ حقّا لغير لا يأخذه إلا ببدل وعوض برضاء ذلك الغير ، فهذا تناقض في قولهم : إن على الله حفظ الأصلح للخلق في دينهم حيث لم يجعلوا له ذلك إلا بعوض يجعل لهم ، والله أعلم.
ودل اتفاق القول : إنه وهاب ، على أن ما ينال من خير أو سعة أو فضل إنما ينال برحمة وفضل لا بحق عليه ؛ لأن من أدى حقا عليه لا يقال : إنه وهاب ، ولا يسمى : وهابا ، على ما أعطى من أعطى ، إنما أعطاه تفضلا منه ورحمة لا حقّا كان عليه.