(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ) أي : أعط وابذل لمن أمرت وامتحنت بالإعطاء من كان أهلا لذلك ، وأمسك عمن ليس هو بأهل لذلك ومن لم تؤمر بدفعه إليه ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦] أن ليس على التخيير ، ولكن على تعذيب من هو أهل للعذاب مستحق له ، واتخاذ الحسن فيمن كان أهلا على ما بين في ذلك وأظهر في الآية حيث قال ـ عزوجل ـ : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ ...) الآية [الكهف : ٨٧] ، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) [الكهف : ٨٨] ، فعلى ذلك يحتمل الأول ، والله أعلم.
وقال الحسن : قوله ـ عزوجل ـ : (عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) يقول : هذا ملكنا الذي أعطيناك يقول : أعط منه ما شئت وامنع منه ما شئت ، لا تبعة عليك فيه في الآخرة (١) ، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين.
وقال قتادة : احبس منهم في وثاقك هذا وعذابك وسرح منهم من شئت لا حساب عليك في ذلك ، وهو قريب (٢) مما ذكرنا في أحد التأويلين : رجع أحدهما إلى الشياطين خاصة في الحبس في العمل من شاء والتسريح لمن شاء منهم ، والآخر إلى كل ما أعطاه من الملك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (بِغَيْرِ حِسابٍ).
أي : أعطى له من الملك ما لا يحسب من الكثرة والعدد.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى).
أي : القربة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي : مرجع ، هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته ولا نقص من قدره عند الله ؛ لأنه إنما سأله الملك ـ والله أعلم ـ لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق ؛ لسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه ، لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها ، ولكن لما ذكرنا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى).
أي : الأسباب التي تزلفه إلى الله وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة ، وذلك يكون في الدنيا والأول يكون في الآخرة ، والله أعلم. وهذا من أعظم المنن واللطف حيث أمنه عن جميع أنواع التبعات ، يغفر له بغير حساب ويستر له بالزلفى وحسن المرجع ، والله أعلم.
__________________
(١) تقدم.
(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٩٣٧) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٨٨).