وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء ، بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك ، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك ؛ فعلى ذلك بلاء أيوب ـ عليهالسلام ـ والشدائد التي أصابته جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك ، ولكن ابتداء امتحان منه إياه بذلك.
ثم قوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) إنه وإن أضاف إليه فهو في الحقيقة من الله لما أخبر أنه على يديه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٤] أخبر أن حقيقة العذاب منه وإن كان على أيديهم يجري ذلك ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) [الانعام : ١٧] أي : ما يمس الإنسان من ضر يكون على يدي آخر ويكون من الله ، وله في ذلك صنع وفعل لا على ما يقوله المعتزلة أن لا صنع [لله] في فعل العباد ، وأخبر أنه لو أراد بأحد ضرا ومسه بذلك ، فلا كاشف لذلك الضر ولا دافع ، وأنه لو أراد خيرا بأحد فلا راد لذلك الفضل غيره ، فهو على المعتزلة أيضا.
وقوله : (بِنُصْبٍ) ، ونصب : واحد وهو تعب ؛ وكذلك يقول القتبي : النّصب والنّصب واحد مثل حزن وحزن وهو العناء والتعب.
وقال أبو عبيدة : النّصب : الشر ، والنّصب : الإعياء.
ومنهم من يقول : إن أحدهما فيما يصيب ظاهرا من جسده ، والآخر فيما يصيب باطنه ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ).
جائز أن يكون لما قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) دعا عند ذلك أن يكشف عنه البلايا التي مسته ، كأنه قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فاكشف ذلك عني (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يدلك على ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل هذا على أن قد كان منه دعاء وسؤال في كشفه الضر عنه ، فاستجاب الله دعاءه ، فعند ذلك قال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) جائز أن يكون لما ضرب برجله الأرض وركضها نبع منها عينان : إحداهما للاغتسال فيها والأخرى للشرب منها ، فكانت التي للشرب منها ماؤها بارد على ما يوافق الشرب ويختار ذلك ، والأخرى ماؤها ما يوافق الاغتسال وهو دونه في النزول على ما قاله أهل التأويل عامة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] وإنما السكون فيما يسكن وهو الليل والابتغاء بالنهار.
وجائز أن يكون العين واحدة إلا أنه لما اغتسل منها كان ما يوافق الشرب.