ثم إن الذي حملهم على عبادة ما عبدوا من دون الله وجهان :
أحدهما : لما لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة الإله العظيم أو تقدر على القيام بخدمته ، فعبدوا هذه الأشياء رجاء أن تقربهم عبادة هؤلاء إلى الله زلفى ، وأن هؤلاء شفعاؤهم عنده ، وذلك لما رأوا في ملوك الدنيا أن كل أحد [لا] يجد السبيل إلى خدمة ملوكها ، أو [لا] يقدر على القيام بين يديه والخدمة له ، فيخدم من اتصل بالملك ومن عظم قدره ومنزلته عند الملك ؛ ليقربه ذلك المخدوم له إلى الملك إذا بدت له الحاجة أو الشفاعة ، وعلى ذلك ما ذكر في قصة فرعون أنه كان اتخذ لقومه أصناما يعبدونها من دونه ، لما لم يروا كل أحد منهم يصلح لخدمته ، وهو ما أغرى قومه على موسى حيث قالوا : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] ونحو هذا أوجه.
والثاني : عبدوهم ؛ لما رأوا آباءهم قد عبدوها ، وتركوا على ذلك حتى ماتوا ، فاستدلوا بتركهم على ذلك على أن الله قد كان رضي بعبادتهم الأصنام وأمرهم بذلك لقولهم إذا فعلوا فاحشة : (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ؛ ولذلك قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] ، وقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥] استدلوا بتركه آباءهم على ما عبدوا من الأصنام على ذلك ولم يعاقبهم في الدنيا ، وكانوا لا يؤمنون بالآخرة حتى يزجرهم إليها على أن الله قد رضي بذلك ، وأنهم عن أمر منه فعلوا ذلك ، فرد الله ذلك عليهم فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
يحتمل قوله : (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : ٣] في محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنهم اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال : إنه ساحر ، ومنهم من قال : إنه شاعر ، وإنه مجنون ، وإنه مفتر ونحوه ، فيخبر أنه يحكم بينهم ؛ ليبين لهم أن ما ذكروا [ابتغوا فيه] أهواءهم.
أو يحكم بينهم أن الأصنام التي عبدوها لا تشفع لهم ، وأن عبادتهم لا تقربهم إلى الله زلفى ، وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا صلىاللهعليهوسلم ليس بشاعر ولا ساحر ولا كذاب على ما قالوا ؛ لما أنبأهم وأخبرهم بأخبار عرفوا أن الساحر والشاعر لا يعرف مثلها ، نحو ما أخبرهم بنصر الله إياه والظفر له عليهم ـ أعني : على الأعداء ـ فكان على ما أنبأهم بأنباء وأخبار عرفوا أنه صادق في ذلك ما لا يستفاد مثلها بالسحر وبالكهانة إلا بالوحي من الله ـ عزوجل ـ لكنهم عاندوا وكابروا ؛ وكذلك بين لهم أيضا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة ، حيث ابتلاهم بأهوال وأفزاع بركوب البحار والتضييق عليهم حتى فزعوا إلى الله في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم ، لم يفزعوا إلى