وخرج ما به تدرك الأشياء ، وبقي منها ما به تحيا ، وهو الروح ، فإذا خرجت الروح منها ، وإن كانت لا تدرك شيئا على الهيئة التي كانت من قبل ، دل ذلك على أن الذي به تدرك الأشياء غير الذي به تحيا ؛ والله أعلم ؛ ألا ترى أنها في حال النوم تلك الأنفس الدراكة حيث كانت تتألم وتتلذذ ، وتقضي الشهوات وهي في أقصى الدنيا ، هذا كله يدل على ما ذكرنا ، والله أعلم.
ثم على هذا جائز أن يكون ما ذكر من عذاب القبر أنه إنما يكون على تلذذ الأنفس الدراكة ، لا على الروح ؛ على ما ذكرنا من تألمها وتلذذها بعد خروجها من الأجساد ومفارقتها عنها ، والله أعلم.
ثم أضاف في هذه الآية التوفي إلى الله ، وفي آية أخرى أضافه إلى الرسل ؛ حيث قال الله ـ عزوجل ـ : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ...) الآية [الأنعام : ٦١] ، وأضافه مرة إلى ملك الموت حيث قال ـ عزوجل ـ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ...) الآية [السجدة : ١١] ، ثم يحتمل إضافة التوفي [إلى] الرسل وإلى ملك الموت وجهين :
أحدهما : وإن كان حقيقة التوفي والموت بالله ؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح منها ، ويشاء ذلك منهم ، وهو كما ذكر من البشرى لهم [و] طمأنينة القلوب عند بعثه إليهم الملائكة بالإعانة لهم والنصر ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) [آل عمران : ١٢٦] [و] قال ـ عزوجل ـ : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ١٢٦] ، أخبر أنه جعل لهم بعث الملائكة بشارة النصر ، وأن حقيقة النصر ليس إلا من عند الله ، فعلى ذلك ما ذكر من إضافة التوفي إلى الرسل ؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح ، وكان حقيقة ذلك لله ـ عزوجل ـ والله أعلم.
والثاني : أن يكون من الله لطف في ذلك ، ومعنى لا يكون ذلك منهم ، لكنه لم يبين ما ذلك اللطف وذلك المعنى الذي يكون منه ، والله أعلم بذلك.
ثم قوله : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي : حين خلق موتها يقبض الروح منها.
وقوله : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) لم يقبض منها الروح ترسل إليها النفس الدراكة إلى الأجل الذي جعل لها ، والله أعلم.
وقوله : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) جائز أن يكون من القبض ؛ أي : يقبض الأنفس.
وجائز أن يكون من العد ؛ كقوله : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : ٨٤].
وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يحتمل قوله : (لَآياتٍ) : العبر ، أو الأعلام ، أو الحجج.