(سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) وقال في آية أخرى : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [طه : ١٠] ، هذا يدل أنه كان ضل الطريق على ما ذكره أهل التأويل ، وقال في آية أخرى : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [النمل : ٧] ، ذكر على التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف ، والقصة واحدة ، والممتحن بذلك موسى لا غير ؛ فهذا يدل أن ليس على الناس تكلف حفظ الألفاظ والحروف بلا تقديم ولا تأخير ولا تغيير ، بعد أن أصابوا المعنى المودع فيها ـ أعني : في الألفاظ ـ وحفظوها من غير تغيير يدخل في المعنى المودع ؛ إذ قصة موسى هذه وغيرها من قصص الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ذكرت في الكتاب في التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف فدل : أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف في كثير من الأحكام في الشهادات والأخبار وغيرها ، وإنما عليهم إصابة المعنى.
ثم قوله : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) قال بعضهم : الشهاب : خشبة في طرفها نار ، والقبس : النار وشهبان : جمع ، ولا تسمى النار : قبسا إلا ما يحمل من موضع إلى موضع ، يقال : قبست النار قبسا واقتبست ؛ وهو قول أبي عوسجة والقتبي.
وقال بعضهم : القبس : الجمر ، والشهاب : النار الموقدة ، وهو قول أبي عبيدة (١).
وقال بعضهم : الشهاب : النور ، والشهاب : الكواكب ، سمي : شهابا لضوئه.
وقال بعضهم : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي : شعلة من نار ، والجذوة : كأنها خشبة فيها نار ؛ وهو مثل الأول.
ودل قوله : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء ؛ حيث ذكر الاصطلاء وهو الاستدفاء ، والله أعلم.
وقوله : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) : اضطربت أقاويل أهل التأويل في هذا :
صرف بعضهم تأويله إلى (ما) لا يزيده إلا سماجة وبعدا عن الحق والصواب وعمى ، لكن لو جاز أن يعبر ويكنى بحرف (من) عن غير مميز وغير ذي فهم وعقل ، لاستقام التأويل فيه ولم يقع فيه شبهة ؛ فيجعل كأنه قال : أن بورك ما فيه من النار وما حولها ، ويكون عبارة عن المكان الذي فيه النار وما حولها من الأمكنة ، أي : بورك في ذلك
__________________
(١) قاله ابن جرير (٩ / ٤٩٥).