المكان الذي فيه النار وما حولها ؛ لأنه قال له في آية أخرى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [طه : ١٢] أي : طوي فيه البركات.
وقال في آية : (بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١] عن بركة ذلك المكان ؛ فعلى ذلك لو جاز أن يعبر بحرف (من) عن غير المميز والفهم ، ويكنى به ـ جاز صرف التأويل إلى ما ذكرنا من المكان.
أو يقال : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ، أي : بورك ما في النار من النور وما حول ذلك ، وما يستنار به ويستضاء ، وهو ما استفاد به من النبوة والرسالة.
هذا كله إذا جازت العبارة والكناية بحرف (من) عن غير ذي التمييز والفهم ، فإن جاز هذا لاستقام أن يقال هذا.
أو أن يكون التأويل منصرفا إلى ما ذكره في حرف ابن مسعود وأبي (١) على طرح حرف (من) وحرف (في) ذكر : أن في حرفهما : نودي أن بوركت النار ومن حولها ، وذلك جائز في اللغة أن يقال : بورك في فلان وبورك فلان وبوركت وبورك فيك ؛ وكذلك ذكر عن الكسائي أنه قال ذلك ، فإن كان ما ذكر عن ابن مسعود وأبيّ ثابتا صحيحا ـ لم يقع فيه شبهة ولا ريب.
أو إن لم يجز العبارة بحرف (من) عن غير ذى التمييز ، فجائز أن يصرف حرف (من) إلى موسى ؛ فيكون كأنه قال : بورك في الذي أتى النار وهو موسى ، أو بورك فيمن جعل له اقتباس النار ؛ فينصرف تأويل (من) إلى موسى ، وقد جعل له من البركة في تلك النار ما لا يحصى من استفادة النبوة والإرشاد إلى الطريق والاصطلاء وغير ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : ذكر هذا ـ والله أعلم ـ تنزيها عن جميع ما قاله بعض أهل التأويل ؛ تبرئة منه عن ذلك كله من نحو مقاتل ، ومن قال بمثل قوله مما يؤدي إلى التشبيه والشبه.
وقوله : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي : الذي أعطاك ذلك الله العزيز الحكيم.
أو يقول : إن الذي جعل لك ذلك الله العزيز الحكيم. أو أن يقول : إنه الذي أراك هذا وأكرمك به أنا الله العزيز الحكيم.
أو أن يقول : إن الذي أراك ـ أي : الذي جعل لك ذلك ـ الله العزيز الحكيم ؛ العزيز : الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم : المصيب في فعله غير مخطئ ، أو أن يقال : عزيز لا يذل أبدا قط ؛ لأنه عزيز بذاته ، الحكيم : يضع كل شيء موضعه لا يخطئ.
__________________
(١) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩١).