بيد أنّ هذا ليس سوى وجه كامن ، يعبر عن إستعداد بعيد الأصول ، لتحمل المسئولية بالفعل ، فهذه لن تبدأ إلّا عند ما تتحقق بعض الشّروط : (كالسّن ، والصّحة مثلا) ، كيما تخلع مغزاها الأخلاقي على تعهداتنا ، وإلتزاماتنا. كذلك لا يكفي أن تجتمع هذه الشّروط العامة لنصبح فعلا مسئولين ، بل يجب أيضا أن تنضاف إليها ظروف مادية ، تدعونا إلى أن ندخل نشاطنا في نسيج الأحداث.
والحقّ أنّ هذه الظّروف لا تتخلف أبدا ، فلكلّ منا بالضرورة بعض العلاقات ، وهو يشغل مكانا معينا ، ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع. فالأب مسئول عن رفاهية أولاده ـ المادية ، والأخلاقية ، والمربي مسئول عن الثّقافة الأخلاقية ، والعقلية للشباب ، والعامل عن تنفيذ عمله ، وكماله ، والقاضي عن توزيع العدالة ، والشّرطي عن الأمن العام ، والجندي عن حفظ الوطن. كذلك نحن ـ فرادى ـ مسئولون عن طهارة قلوبنا ، وإستقامة أفكارنا ، كما أننا مسئولون
__________________
تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، النّور ٥٤. وقوله : (حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) ـ الجمعة : ٥. وهو أحيانا بمعنى (تحميل الخطأ) في قوله تعالى : (يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) ، طه : ١٠٠. وقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ، طه : ١١١. واستنادا إلى هذا المعنى المزدوج للفظ ، حمله بعض المفسرين على معناه الثّاني ، وهاك معنى النّص تبعا لما ذهبوا إليه : ومع أنّ المخلوقات الأخرى قد وفت بمهمتها ، حين خضعت لقانون (الطّبيعة) دون مقاومة (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ، فصلت : ١١. فإنّ الإنسان الّذي لم يطع القانون (الأخلاقي) يبقى محملا به ، (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) ، عبس : ٢٣ ، فالأمر لا يتعلق إذن بالإنسان بعامة ، بل بالكفار والعصاة وحدهم ، وهو تفسير ـ لا ريب ـ معقول ، في ذاته ، ولكنه فضلا عن ذلك التّقييد الّذي يفرضه على مفهوم (الإنسان) ، الّذي جاء غير محدد في النّص ، فهو لا يحقق على وجه الدّقة التّطابق المطلوب بين الضّمائر ، والأسماء الّتي تتعلق بها ، إذ لم تعد الأمانات المعروضة على الإنسان ، وغيره من المخلوقات ـ كما هي ، وصار من اللازم أن يكتفي بإلتقائها في الفكرة العامة للأمانة ، كما أصبح لازما اللّجوء إلى فكرة مجازية ، حتّى نقرر للطبيعة نوعا من الإلتزام تجاه القانون.