القاضي سوف يؤدي هنا دور الطّبيب المعالج تماما ، فكما أنّ الطّبيب يجب أن يرعى مزاج المريض ، والخصائص النّفسية الكيمائية للدواء ، والظّروف الزّمانية ، والمكانية للعلاج. قبل أن يصف الدّواء الأكثر فاعلية ، والأقل إزعاجا ، في كلّ حالة تعرض عليه ؛ فكذلك الأمر هنا ، تتأثر العقوبة تبعا لثقل الواجب المختان ، وطبيعة المجرم ، والظّروف الّتي خالف فيها القاعدة ، ومشاعر أصحاب الحقّ (حين تتصل الجريمة بأضرار ترتكب في حقّ الغير) ، إنّ العقوبة حينئذ يجب أن تتنوع بدقة ، إبتداء من مجرد التّأنيب على إنفراد ، أو التّعنيف أمام العامة ، على تفاوت في قساوته ، حتّى السّجن ، زمنا يطول أو يقصر ؛ والجلد ، عددا يقل أو يكثر ، ولكنه لا يصح بعامة أن يبلغ عدد الجلد المنصوص عليه في الحدود (وهذه النّقطة موضع خلاف).
هذه الطّرق في العقوبة لا تقتصر على كونها قابلة لمختلف الأشكال المخففة على تفاوت تبعا للحالة المعروضة ، بل إنّ التّعنيف ذاته يمكن أن يهبط إلى درجة نصيحة خيرة ، أو تعليم خالص منزه ، ـ ليس هذا فحسب ، بل إنّ من حقّ القاضي ، وربما من واجبه ـ أن يغضي بكلّ بساطة عن بعض الأخطاء القليلة حين تقع من إنسان ذي خلق ، وقد ورد في ذلك أثر منسوب إلى النّبي صلىاللهعليهوسلم ، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الصّحة العالية ، قال : «أقيلوا ذوي الهيئات (أو ذوي الصّلاح) عثراتهم ، إلّا الحدود» (١).
__________________
(١) انظر ، سنن أبي داود : ٤ / ١٣٣ ح ٤٣٧٥ ، الجامع الصّغير : ١ / ٤٨ ، طبعة دار الكاتب العربي. والحديث ـ