إنّ موقف القرآن الكريم من هذه المسألة يختلف تماما عن هذا الموقف المتشدد المتشائم ، وينزع إلى نظرة أكثر رحابة ، وأكثر تفاؤلا. لقد كان هناك دائما عدد من عباد الله الذين اصطفاهم لفعل الخير ، وسوف يكون منهم عدد دوما وعلى مر الزّمان. هؤلاء العباد من الصّفوة قد جبلوا بما أودعه الله فيهم من نزعات فطرية ، على معرفة الحقيقة ، وعلى ممارسة الفضيلة. وهم يسارعون دائما إلى عمل الخير بإخلاص ، وعن إنبعاث تلقائي. ولا يصح القول إنّهم لا يبذلون أي جهد يستحقون عليه المثوبة ؛ بل إنّ الجهد الّذي يبذلونه بدلا من أن يتجه نحو مغالبة «الشّر» فإنّه يتجه نحو «البناء» ، أي نحو إضافة لبنات جديدة إلى صرح الفضيلة.
ونحن لا ننكر أنّ هذه الصّفوة الممتازة قلة ؛ غير أنّ هناك قدرا من الشّهامة في كلّ نفس ، وإن إختلفت في شكلها. والإنسان لا يخلق تلك النّزعات الطّيبة في نفسه بل يتلقاها إستعدادا مبدئيا من يد الخالق ، ولا يفتأ ينميها بالكفاح إمّا لمقاومة قوة شريرة ، أو لكسر جمود المادة ، وركود الحياة العادية. وهذا النّوع الأخير من الكفاح هو عمل الشّخصيات الأخلاقية العظيمة. فجهدهم ينصب في جوهره على متابعة النّشاط الخلاق ، ومحاربة التّوقف عند حدّ معين ، والتّصاعد بالعمل الأخلاقي. وهكذا نرى أنّه من الممكن التّوفيق بين «الجهد» والإنبعاث «التّلقائي» ، ومن الممكن أن يسهم كلّ منهما في إحراز الفضيلة ، واستحقاق الثّواب.
أمّا العلاقة التّركيبية بين الجهد ، والتّيسير فنجدها أكثر وضوحا في القرآن الكريم. فلا يتنافى التّيسير العملي في ممارسة الشّعائر مع مفهوم الجهد ، بل إنّه يضفي عليه طابعا إنسانيا. ويهدف هذا الجهد إلى إبعاد روح التّعسف الّذي لا يبرره عقل ، ولا يدعو إليه واجب ؛ كما أنّه يستبعد التّزمت الضّيق في التّدين ، الّذي يستنفد الجهد في الحاضر ، دون أن يترك ذخيرة تمكن من الإستمرار في المستقبل. هذا الجهد الّذي