ومع ذلك ، فقد لاحظنا قلة عددية ، تكاد تبلغ أحيانا حدّ النّدرة ، في الآيات المدنية ، المتعلقة بالجنّة ، أو النّار ، حتّى في جانبهما الرّوحي.
فإذا ما وسعنا نطاق البحث وجدنا أيضا أنّ مراجع القيم الباطنة من النّصوص كثيرة جدا ، في المرحلتين ، وكأنّها متناسبة مع زمانها الخاص ، ومع حجم الحديث المطابق لها (١). وفي مقابل ذلك نجد أنّه على حين يبدأ الحديث الأخروي يقل في المدنية ـ يظهر اتجاه معاكس له في إطار الإعتبارات الأخرى ، فمن الآن فصاعدا يفسح التّبليغ مكانا أرحب للشعور بالحضور الإلهي ، وللنتائج العاجلة ، ذات الطّابع الأخلاقي ، والإجتماعي ، والرّوحي.
ونرى أيضا مجموعة جديدة تظهر ، يفرض الواجب فيها بسلطانه الشّكلي المحض ، وكلّ هذا يسمح لنا أن نرى ، أنّ العالم الإسلامي قد شهد مع الهجرة تقدما للأفكار الأخلاقية ، لا تخلفا كما كان يقال غالبا.
وأيّا ما كان الأمر ، فإذا كنّا قد عرفنا ـ هكذا ـ الوسائل الكثيرة الّتي يستخدمها القرآن لتسويغ أمره ، والجانب الّذي فسحه للدوافع الأخلاقية السّامية ، بما في ذلك التّجرد المطلق ، والخضوع للشرع لمجرد إحترام الشّرع ـ إذا عرفنا ذلك يصبح من الظّلم بداهة أن تنهم الأخلاق القرآنية بأنّها أخلاق نفعية.
إنّ أكثر ما نملك هو أن نتطلب لأخلاق محضة جزاء أخلاقيا لا غير ، وبذلك يمكن أن ننكر على هذه الأخلاق أن تكون مختلطة. وربما كان هذا الجهاز المادي للثواب ، والعقاب الأخروي ـ على الرّغم من أنّه ليس الوحيد في المواجهة ـ من الأمور الّتي نود ألا تكون ، حتّى نرد إلى الجزاء الإلهي قيمته
__________________
(١) من المعلوم أنّ النّصوص المنزلة بعد الهجرة تكاد تشغل ثلث القرآن.