فكيف إذن نفسر هذه الإستثناءات الّتي تؤدي إلى تقويض المبدأ العام ، مبدأ النّيّة ، الّذي أعلن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه لازم لا ينفصل عن كلّ نشاط أخلاقي؟ ..
حاول أتباع الفقه العراقي لذلك تفسيرين ، فبدأوا بتبني التّأويل الشّائع للحديث عن النّيّة ، وأنّ بطلان العمل غير المصحوب بالنّيّة هو وجه من وجوه الكلام فحسب ، فالنّيّة شرط ضروري ، لا لوجود العمل الأخلاقي في ذاته ، أي صحته ، بل لكماله ، واستيفائه قيمته الكاملة. وهكذا يقررون مع خصومهم في الرّأي أنّ الواجب الّذي لا يؤدّى بحضور القلب ، بل بإعتباره أمرا ـ لن تكون له قيمة إيجابية ، ولن يستوجب أية مكافأة ، ولكنهم لا يرونه باطلا مطلقا ، أو ذنبا ، وحسبه أنّه يكفي لإبراء صاحبه من التّكليف بإعادته مع النّيّة.
فإذا أتى هؤلاء الشّراح إلى افتراض أنّ الحديث ينص على الإبطال الكلي للعمل غير المصحوب بالنّيّة ، إلتزموا بتقييده ، حيث يطبقونه فقط على الواجبات الأساسية ، الّتي يؤمر بها لذاتها ، لا لغيرها من الواجبات الأخرى.
ومن ثمّ تفيد أشكال الطّهارة من هذا التّجاوز ، لأنّها لم يؤمر بها إلّا كمقدمات للصلاة ، الّتي تعتبر هنا الواجب الأوّل.
هذا التّفسير المزدوج لا يبدو لأعيننا كافيا ، لأنّه في جزئه الأوّل يهمل المعنى الحقيقي للكلمات دون ضرورة ظاهرة ، وهو في جانبه الثّاني يستبعد جميع الواجبات المساعدة بصورة منهجية ، على حين أنّ من بينها واجبات ينبغي أن تؤدى صراحة ـ تبعا لنفس المذاهب ـ بإعتبارها واجبات : (ومن ذلك الطّهارة
__________________
ـ الرّوضة البهية : ٢ / ٢٦٩ ، التهذيب : ٥ / ٢٨٩ ، الخلاف : ٢ / ٣٣٧ ، الإستبصار : ٢ / ٣٠١ ، المغني : ٣ / ٤٣٦ ، المجموع : ٨ / ١١٠ ، الحاوي الكبير : ٤ / ١٧٣.