وقال أبو علي الدّقاق : «البس مع النّاس ما يلبسون ، وتناول مما يأكلون ، وانفرد عنهم بالسّر» (١).
ولهذا عرفوا «العارف» بأنّه : «كائن بائن» أي أنّه كائن مع الخلق بشواغله العادية ، بائن عنهم بالسّر ، وبفكره المتعلق بالله.
والشّكل الوحيد للعزلة الّتي يمكن ، بل ويجب ، أن يعتبر نافعا ، ومرغوبا فيه بالنسبة إلى كلّ النّاس ، لأنّه يخلق القيم الإيجابية الأساسية هو الإبتعاد الجزئي عن الضّجيج الدّنيوي ، بقدر ما يلزم للإستجماع ، والتّأمل الخصب. ولا أحد يماري في فضل هذا النّوع من الإنطواء ، فهو الوسيلة الوحيدة القادرة على إضاءة أفكارنا ، وإعلاء مشاعرنا ، وشحذ عزائمنا ، ودعم صلاتنا بالقيمة المطلقة.
بيد أنّه ليس بلازم أن يتم هذا الإعتزال خارج المدنية ، وعلى حساب واجباتنا الأسرية ، والإجتماعية ، فبدلا من أن يعتبر انقطاعا ، ينبغي أن يكون بالأحرى اهتماما بإسترداد أنفسنا خلال ساعات فراغنا ، وبخاصة أثناء اللّيل ، وهو ما يقصد إليه القرآن من قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٢).
وفضلا عن ذلك فنحن نعلم أنّ هذا النّموذج من العزلة الجزئية ، والمتقطعة كان من شأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن يختار مبعوثا إلى العالمين ، ومنذ ذلك الحين ، لم يزل الرّسول يفزع إلى هذه العزلة من وقت لآخر ، وبخاصة خلال العشر الأواخر من رمضان ، وإن كان ذلك في بيته ، أو بجوار البيت ، في مسجده.
__________________
(١) انظر ، الرّسالة القشيرية : م ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٢.
(٢) المزمل : ٦.