فإذا قلت : نؤمن وتؤمن ، ويؤمن ، جاز لك فيه وجهان :
أحدهما ـ الهمز على الأصل.
والثاني ـ قلب الهمزة واوا تخفيفا ، وحذفت الهمزة الوسطى حملا على أومن ، والأصل يوأمن ؛ فأما أومن فلا يجوز همز الثانية بحال لما ذكرنا.
والغيب هنا : مصدر بمعنى الفاعل ، أي يؤمنون بالغائب عنهم.
ويجوز أن يكون بمعنى المفعول ؛ أي المغيّب ؛ كقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ) ؛ أي مخلوقه. ودرهم ضرب الأمير ؛ أي مضروبه.
(وَيُقِيمُونَ) : أصله يؤقومون ، وماضيه أقام ، وعينه واو ؛ لقولك فيه : يقوم ، فحذفت الهمزة كما حذفت في أقيم لاجتماع الهمزتين ، وكذلك جميع ما فيه حرف مضارعة لئلا يختلف باب أفعال المضارعة. وأما الواو فعمل فيها ما عمل في نستعين ، وقد ذكرناه.
وألف الصلاة منقلبة عن واو ؛ لقولك : صلوات ، والصلاة مصدر صلى ؛ ويراد بها هاهنا الأفعال والأقوال المخصوصة ؛ فلذلك جرت مجرى الأسماء غير المصادر.
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) : «من» متعلقة بينفقون ؛ والتقدير : وينفقون مما رزقناهم ؛ فيكون الفعل قبل المفعول ، كما كان قوله : يؤمنون ، ويقيمون كذلك ، وإنما أخّر الفعل عن المفعول لتتوافق رؤوس الآي.
وما بمعنى الذي.
ورزقنا يتعدّى إلى مفعولين ؛ وقد حذف الثاني منهما هنا ، وهو العائد على «ما» ، تقديره : رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه.
ويجوز أن تكون «ما» نكرة موصوفة بمعنى شىء ؛ أي : ومن مال رزقناهم ؛ فيكون رزقناهم في موضع جرّ صفة لما.
وعلى القول الأول لا يكون له موضع ؛ لأن الصلة لا موضع لها ، ولا يجوز أن تكون ما مصدرية ؛ لأن الفعل لا ينفق.
ومن للتبعيض ، ويجوز أن تكون لابتداء غاية الإنفاق.
وأصل ينفقون : يؤنفقون ، لأن ماضيه أنفق ، وقد تقدّم نظيره.
٤ ـ (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : «ما» هاهنا بمعى الذي ؛ ولا يجوز أن تكون نكرة موصوفة ، أي بشيء أنزل إليك ؛ لأنه لا عموم فيه على هذا ، ولا يكمل الإيمان إلا أن يكون بجميع ما أنزل إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وما للعموم ، وبذلك يتحقق الإيمان.
والقراءة الجيدة أنزل إليك ، بتحقيق الهمزة.
وقد قرئ في الشاذ أنزل ليك ـ بتشديد اللام.
والوجه فيه أنه سكّن لام أنزل ، وألقى عليها حركة الهمزة ، فانكسرت اللام ، وحذفت الهمزة ، فلقيتها لام إلى فصار اللفظ بما أنزل ليك ، فسكنت اللام الأولى ، وأدغمت في اللام الثانية.
والكاف هنا ضمير المخاطب ، وهو النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ ويجوز أن يكون ضمير الجنس المخاطب ، ويكون في معنى الجمع.
وقد صرح به في آي أخر ؛ كقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ).
(وَبِالْآخِرَةِ) : الباء متعلقة بيوقنون ؛ ولا يمتنع أن يعمل الخبر فيما قبل المبتدأ ، وهذا يدلّ على أن تقديم الخبر على المبتدأ جائز ؛ إذ المعمول لا يقع في موضع لا يقع فيه العامل.
والآخرة صفة ، والموصوف محذوف ، تقديره : وبالساعة الآخرة ، أو بالدار الآخرة ، كما قال : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ). وقال : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
(هُمْ يُوقِنُونَ) : هم مبتدأ ذكر على جهة التوكيد ، ولو قال : وبالآخرة يوقنون لصحّ المعنى والإعراب ، ووجه التوكيد في «هم» تحقيق عود الضمير إلى المذكورين لا إلى غيرهم ، ويوقنون الخبر.
وأصله يؤيقنون ، لأن ماضيه أيقن ، والأصل أن يؤتى في المضارع بحروف الماضي ، إلا أنّ الهمزة حذفت لما ذكرنا في يؤمنون ، وأبدلت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها.
٥ ـ (أُولئِكَ) : هذه صيغة جمع على غير لفظ واحده ، وواحده ذا ؛ ويكون أولئك للمؤنث والمذكر ، والكاف فيه حرف للخطاب وليست اسما ؛ إذ لو كانت اسما لكانت إمّا مرفوعة أو منصوبة ؛ ولا يصحّ شىء منهما ؛ إذ لا رافع هنا ولا ناصب ؛ وإما أن تكون مجرورة بالإضافة ، وأولاء لا تصح إضافته لانه مبهم ، والمبهمات لا تضاف ؛ فبقى أن تكون حرفا مجرّدا للخطاب.
ويجوز مدّ أولاء ، وقصره في غير القرآن.
وموضعه هنا رفع بالابتداء ، و (عَلى هُدىً) الخبر ، وحرف الجر متعلق بمحذوف ، أي أولئك ثابتون على هدى.
ويجوز أن يكون أولئك خبر الذين يؤمنون بالغيب ، وقد ذكر.
فإن قيل : أصل «على» الاستعلاء ، والهدى لا يستعلى عليه ، فكيف يصحّ معناها هاهنا؟
قيل : معنى الاستعلاء حاصل ؛ لأنّ منزلتهم علت باتّباع الهدى.
ويجوز أن يكون لما كانت أفعالهم كلّها على مقتضى الهدى كان تصرّفهم بالهدى كتصرف الراكب بما يركبه.
(مِنْ رَبِّهِمْ) : في موضع جرّ صفة لهدى ، ويتعلق الجارّ بمحذوف تقديره : هدى كائن ، وفي الجارّ والمجرور ضمير يعود على الهدى.
ويجوز كسر الهاء وضمّها على ما ذكرنا في عليهم في الفاتحة.
(وَأُولئِكَ) : مبتدأ ، و (هُمُ) مبتدأ ثان ، و (الْمُفْلِحُونَ) خبر المبتدأ الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول.