الفصل الأوّل
في توضيح كون طبيعة عامّة البشر مجبولة على هذه الحالة في كلّ زمان ، بحيث إنّها أعمت عيُون ذوي الأبصار ، بحيث لا ترى ما كالشمس في رابعة النهار ، وأوقعت فئاماً (١) في مهالك الباطل ، ومهاوي بلائه ، بل دعت أقواماً إلى أن تصدّوا لتحريف الحقّ وإخفائه ، وبيان أنّ متابعتها منهيّ عنها مذمومة مطلقاً ، لاسيّما في اُمور الدين ، وأنّها من أقبح صفات الجهّال والضلاّل والمبطلين وأطوار الكفّار والمعاندين ، وأنّها هي الحميّة الجاهليّة .
اعلم أنّ هذا المدّعى أمر بيّن واضح مشاهد في عامّة الناس ، وبالنسبة إلى أكثر الأشياء ، بحيث صارت الطبائع مجبولة عليه ، وناهيك في هذا حبّ كلّ إنسان مسقط رأسه ، والبلد الذي نشأ فيه ، بحيث لا يشتهي الإقامة في غيره ، بل يرجّحه على غيره وإن كان الغير أعمر وأحسن ، حتّى أنّ البدوي المعتاد على البرّ يضيق صدره في البلدان كأنّه في الحبس إلى أن يعتاد ذلك أيضاً بامتداد المدّة ، وكثرة معاشرة أهلها ، فإنّه حينئذٍ بسبب العادة الطارئة يصير بحيث ربّما لا يشتهي الخروج إلى البرّ أصلاً .
__________________
(١) الفِئام : الجماعة من الناس . شمس العلوم ٨ : ٥٣٠١ .