ولقد كفى في هذه الاختلافات التي حصلت بينهم اُصولاً وفروعاً ، بحيث انجرّت إلى تكفير بعضهم بعضاً والتفسيق ، مع أنّ عندهم المخطئ في الاجتهاد معذور ؛ إذ لو لم يكن هناك علّة الميل إلى هوى النفس لشملهم التوفيق ، وهداهم ربّهم إلى ما هو عين التحقيق ، كما مرّ مراراً ، ويأتي غير مرّة ، واللّه الهادي .
المقام الثاني : في بيان نبذ ممّا نقل القوم من أطوار بعض أهل عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله من الصحابة وأمثالهم ، وما صدر منهم ولو بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ممّا ينادي بالمقصود ، أعني : وجود الحالات التي ذكرناها هنا وفي أصل الباب ، وبيّنّا أنّها من نتائج الميل إلى الهوى والحرص على الدنيا فيهم أيضاً .
نقل الزبير بن بكّار (١) ـ من ولد الزبير المشهور ـ في كتابه : عن مطرّف بن المغيرة بن شعبة (٢) ، قال : وفدت مع أبي على معاوية ، وكان أبي يأتيه بالليالي فيتحدّث معه ويأتينا وهو راض عنه ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة مغتمّاً ، فسألته بعد ساعة وقلت له : ما لي أراك مغتمّاً ؟ فقال : يا بنيّ ، جئت من عند أخبث الناس (٣) ، قلت : وما ذاك ؟ قال : معاوية ، ثمّ قال : إنّي خلوت به ، فقلت له : إنّك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين ، فلو
__________________
(١) هو الزبير بن بكار بن عبداللّه بن مصعب ، يكنّى أبا عبداللّه ، وأبا بكر ، كان عالماً بالنسب ، عارفاً بأخبار المتقدمين ، وسائر الماضين ، ولي القضاء بمكّة ، له كتب منها : أخبار العرب وأيّامها ، ونوادر أخبار النسب ، ونوادر المدنيّين ، ولد سنة ١٧٢ هـ ، ومات سنة ٢٥٦ هـ .
انظر : تاريخ بغداد ٨ : ٤٦٧ / ٤٥٨٥ ، وفيات الأعيان ٢ : ٣١١ / ٢٤٠ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣١١ / ١٢٠ ، تهذيب التهذيب ٣ : ٢٦٩ / ٥٨٠ .
(٢) هو من ولاة الحجاج ولاّه على المدائن مات سنة ٧٧ هـ .
انظر : تاريخ الطبري ٦ : ٢٨٤ ، المنتظم ٦ : ١٩٢ ، الكامل لابن الأثير ٤ : ٤٣٣ .
(٣) في المصدر : جئت من أكفر الناس وأخبثهم .