بالرفض لهذه الدنيا ، التاركة لكم الزائلة عنكم ، وإن لم تكونوا تحبون تركها ، والمبلية لأجسادكم وإن أحببتم تجديدها ، وإنما مثلكم ومثلها كركب سلكوا سبيلاً ، فكأنهم قد قطعوه ، وأفضوا إلى علم ، فكأنهم قد بلغوه ، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها ؟ وكم عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه ، وطالب حثيث من الموت يحدوه ؟ فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها ، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ، ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها ، فإن عز الدنيا وفخرها إلى انقطاع ، وإن زينتها ونعيمها إلى ارتجاع ، وإن ضراءها وبؤسها إلى نفاد ، وكل مدة فيها إلى منتهى ، وكل حي فيها إلى بلى ، أوليس لكم في آثار الأولين وفي آبائكم الماضين معتبر وبصيرة إن كنتم تعقلون ، ألم تروا إلى الأموات لا يرجعون ، وإلى الأخلاف منكم لا يخلدون ، قال الله تعالى والصدق قوله : ( وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) (٥) وقال : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (٦) ولستم ترون إلى أهل الدنيا وهم يصبحون على أحوال شتى : فمن ميت يبكى ، ومفجوع يعزى ، وصريع يتلوى ، وآخر يبشر ويهنى ، ومن عائد يعود ، وآخر بنفسه يجود ، وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل ليس بمغفول عنه ، وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي ، والحمد لله رب العالمين ، رب السماوات السبع ، ورب الأرضين السبع ، ورب العرش العظيم ، الذي يبقى ويفنى ما سواه ،
__________________________
(٥) الأنبياء ٢١ : ٩٥ .
(٦) آل عمران ٣ : ١٨٥ .