ويأتيه أبناء السبيل يسألونه ويستفتونه ، فكان يتكلم في كلّ يوم بكلام لا يدعه وهو : ( الحمد لله الّذي هدانا للإسلام ، وعلّمنا القرآن ، وأكرمنا بمحمّد ( عليه السلام ) ، فانتاشنا به من الهلكة ، وانقذنا به من الضلالة ، فأفضل الأئمة أحسنها لسنّته اتّباعاً ، وأعلمهم بما في كتاب الله احتساباً ، وقد عمل بكتاب الله ربّكم وسنة نبيكم قوم صالحون ، على الله جزاؤهم ، وهلكوا فلم يدعوا بعدهم أمثالهم ، ولا موازياً لهم ، وبقي قوم يريغون الدنيا بعمل الآخرة ، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين ، يرضونكم بظاهرهم ، ويسخطون الله بسرائرهم ، إذا عاهدوا لم يوفوا ، واذا حكموا لم يعدلوا ، يرون الغدر حزماً ، ونقض العهد مكيدة ، ويمنعون الحقوق أهلها ، فنسأل الله أن يهلك شرار هذه الأمة ويولّي أمورَها خيارَها ).
فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه : ( إنّك تجلس العصرين فتفتي بالجهل ، وتعيب أهل البرّ والفضل ، وأظنّ حلمي عنك واستدامتي إياك جرّءاك عليَّ ، فاكفف عني من غربك ، واربع على ظلعك ، واربح على نفسك ).
فكتب إليه ابن عباس : ( فهمت كتابك ، وإنّما يفتي بالجهل من لم يؤت من العلم شيئاً ، وقد أتاني الله منه ما لم يؤته إياك ، وزعمت أنّ حلمك عني جرأني عليك ، فهذه أحاديث الضبع أستها ، متى كنت لعرامك هائباً ، وعن حدّك ناكلاً ثمّ تقول : إنّي إن لم أنته وجدت جانبك خشناً ، وجدتك إلى مكروهي عجلاً ، فما أكثر ما طرت إليَّ بشقّة من الجهل ، وتعهدتني بفاقرة من المكروه ، فلم تضرر إلاّ نفسك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ، ولا أرعى إن رعيت ، فوالله لا انتهيت عن ارضاء الله بإسخاطك » (١).
____________________
(١) أنساب الأشراف ( في ترجمة ابن عباس ) بخطي.