فلمّا سارت إليه رحّب بها وأدنى مجلسها وقال : ممّن أنت؟ قالت : من كلب ، قال : كيف حالك؟ قالت : لم يبق من الدنيا ما يفرح إلاّ وقد بلغته ، وإنّي الآن أعيش بالقناعة ، وأصون القرابة ، وأنا أتوقع مفارقة الدنيا صباحاً ومساءً.
فقال لها : أخبريني ماذا أعددت لأولادك عند انصرافهم بعد أخذنا الخبزة؟
فقالت : أعددت لهم قول العربي :
حتى أنال به كريم المأكل |
|
ولقد أبيت على الطِوى وأظلّه |
فأعجب بها ثمّ قال لبعض غلمانه : انطلق إلى خبائها فإذا أقبل بنوها فجيء بهم.
فقالت العجوز للغلام : انطلق فكن بفناء البيت ، فإنهم ثلاثة فإذا رأيتهم تجد أحدهم دائم النظر نحو الأرض عليه شعار الوقار ، فإذا تكلم أفصح ، وإذا طلُب أنجح ، والآخر حديد النظر كثير الحذَر إذا وعد فعل ، وإن ظلم قتل ، والآخر كأنّه شعلة نار ، وكأنّه يطلب بثار ، فذاك الموت المائت والداء الكابت ، فإذا رأيت هذه الصفة فيهم فقل لهم عني : لا تجلسوا حتى تأتوني.
فانطلق الغلام فأخبرهم ، فما بعُد أمده حتى جاؤا فأدناهم ابن عباس وقال : إنّي لم أبعث إليكم وإلى والدتكم إلاّ لأصلح من أمركم ، واصنع ما يجب لكم.
فقالوا : هذا لا يكون إلاّ عن مسألة أو مكافأة فعل جميل تقدم ، ولم يصدر منا واحدة منهما ، فان كنت أردت التكرم مبتدءاً فمعروفك مشكور وبرّك مقبول مبرور.
فأمر لهم بسبعة آلاف درهم وعشرٍ من النوق ، فقالت العجوز لأولادها ، ليقل كلّ واحد بيتاً من قوله :