وغضّ البصر.
وأمّا أنّه أزهد النّاس لأنّ النّاس أجمعوا على أنّ عليّ بن أبي طالب أزهد أهل الدنيا بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشن النّاس مأكلاً وملبساً، وكان ثوبه مرقوعاً بجلدٍ تارة وليف أخرىٰ، وكان نَعلاه من ليف. وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمّه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه، حتّى يبقى سدّى لا لحمة له. وكان يأتدم إذا ائتدم بخلّ أو بملح، فإنْ ترقّى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلّا قليلاً، ويقول : «لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان». وكان مع ذلك أشد النّاس قوّة، وأعظمهم أيداً، لا ينقص الجوع قوّته، وهو الذي طلّق الدنيا ثلاثاً وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلّا من الشام، فكان يفرّقها ويمزّقها، ثمّ يقول :
هذا جنايَ وخيارُه فيهِ |
|
إذ كلّ جانٍ يَدهُ إلى فيهِ١ |
وذلك أنّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام عُرضت عليه الدّنيا حين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء، وتمكّن من الإمساك بزمامها، وهو خليفة المسلمين، وهو يقول : يا صفراء يا بيضاء، غُرّي غيري ٢، ولو أراد التّمتّع بأي اللذائذ شاء لم يمنعه مانع. وقال عليّ عليهالسلام : فلتكن الدّنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القرظ، وقراضة الجَلَم.٣
وعن عبد الله بن عبّاس قال : دخلت على أمير المؤمنين عليهالسلام بذي قار وهو
_______________________
١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٢٦؛ حلية الأولياء ١ / ٨١؛ منهج الشيعة ٥٣.
٢ ـ تذكرة الخواصّ ١١٠.
٣ ـ نهج البلاغة، الخطبة ١٥٨. والحُثالة بالضمّ : الرّدي من كلّ شيء، وما لا خير فيه، القرظ : ورق السَّلم، أو شجر له شوك كثير، والجَلَم : مقراض يُجزّ به الصوف.