وله عليهالسلام في هذا الباب من التنفير عن الدنيا والتنفير عن مساوئها جواهر حكم ميثوثة في غضون خطبه، مندرجة في مطاوي مواعظه، منظومة في عقود كلامه.
واقتصرت على هذه النبذة، فإنّها مع قلّتها وافية بالغرض في دلالتها على معرفته بالدنيا، فلهذا لمّا فهمها اتّهمها، وحي عرفها صرفها، وإذ استبانها أبانها، ومذ تحقّقها طلّقها، وحيث تبيّن إقبالها بإيضاعها رفض ويتقّن احتيالها بخداعها، مقتني متاعها أدحض مستحلّي ارتضاعها، فارتدى لباس الزهادة فيها، وامتطى مطا الرغبة عنها، فصار زهده فيها شعاراً مدركاً بالأبصار، وأثراً حقيقيّاً لا يُقابَل دعوى وجوده بالإنكار، حتّى تواترت منه متون الأخبار، وتجاهرت به أقوال أئمّة الأمصار.
فمنها : أنّ ابن النبّاح خازن بيت المال جاءه يوماً فقال : يا أمير الؤمنين، قد امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء، فقال عليهالسلام : الله اكبر، ثمّ قام متوكّئاً على الخازن حتّى قام على بيت المال. فقال :
هذا جنايَ وخِيارُه فيهِ |
|
إذ كلُّ جانٍ يَدُه إلى فيهِ |
يا بن النبّاح، علَيّ بأسباع الكوفة ـ وكانت الكوفة يومئذ أسباعاً ـ فنودي في النّاس، فأعطى النّاس ووضع الحقوق في مَقارّها وهو يقول : يا صفراء يابيضاء غُرّي غَيري، هو وها، حتّى ما بقي دينار ولا درهم. ثمّ أمر بنضحه، وقام فصلّى فيه ركعتَين وانصرف إلى مكانه كما جاء منه لم يصحبه منه شيء. وقال مجمّع التيميّ : كان عليّ بن أبي طالب عليهالسلام يكنس بيت المال كلّ جمعة ويصلّي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة.
ومنها : أنّ هارون بن عنترة قال : قال
لي أبي : دخلت على أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام
بالخورنق وهو يرعد تحت سَمْلِ قطيفة، فقلت : يا أمير المؤمنين : إنّ الله