وقرأ الجمهور (فِي الزَّبُورِ) بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور ، أي المكتوب ، فعول بمعنى مفعول ، مثل : ناقة حلوب وركوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع زبور بوزن فعول جمع زبر ـ بكسر فسكون ـ أي مزبور ، فوزنه مثل قشر وقشور ، أي في الكتب.
فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داود قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في [سورة النساء : ١٦٣] وفي [سورة الإسراء : ٥٥] ، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داود لأنه لم يذكر وعد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليهالسلام : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الأعراف : ١٢٨] فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.
والزبور : كتاب داود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب (فويدو) أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا : «صديقين يرشون أرص» بشين معجمة في «يرشون» وبصاد مهملة في «أرص» ، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود : الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مثل هذا الوعد في القرآن في [سورة النور : ٥٥] في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لفرق من العباد الصالحين.
ومعنى (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة. فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وعدوا بميراث الأرض ، وقيل المراد ب (الذِّكْرِ) كتاب الشريعة وهو التوراة.
قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء : ٤٨] فيكون الظرف في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) مستقرّا في موضع الحال من الزبور. والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدّث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة. وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة: ٢١] ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من الملك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داود. فإن ملك داود أحد مظاهره. بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوما صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقهم الله وعده فملكوا الأرض