قوله تعالى : (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها). فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض ، ولكن جعل الاستفهام داخلا على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جعل كالعدم فكان التعجيب من انتفائه ، فالكلام جار على خلاف مقتضى الظاهر.
والفاء في (فَتَكُونَ) سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير ، أي لم يسيروا سيرا تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها ، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتا وفي هذا المعنى قال المعرّي :
وقيل أفاد بالأسفار مالا |
|
فقلنا هل أفاد بها فؤادا |
وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات ، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائد تزيد همته نفاذا فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مفيض الدم ـ وهو مادة الحياة ـ على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال : (يَعْقِلُونَ بِها) وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال : (يَعْقِلُونَ بِها) فأشار إلى أن القلوب هي العقل.
ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سيرهم في الأرض منزلة المعدوم.
وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها ؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ما علمه المسافرون علما سبيله سماع الأخبار.
وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت