وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) معترضة.
ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان ، كما حكى الله عن المشركين قولهم : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤١ ـ ٤٢] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم ، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن ، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم ، وذلك هو الصبر الذي في قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤٢] وقوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمر الله رسله فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن ، فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان وتثبت الآيات السالفة. فالنسخ : الإزالة ، والإحكام : التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف ، أي ينسخ آثار ما يلقي الشيطان ، ويحكم آثار آياته.
واللامان في قوله (لِيَجْعَلَ) وفي قوله (وَلِيَعْلَمَ) متعلقان بفعل (فَيَنْسَخُ اللهُ) فإن النسخ يقتضي منسوخا ، وفي يجعل ضمير عائد إلى الله في قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ).
والجعل هنا : جعل نظام ترتب المسببات على أسبابها ، وتكوين تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى : أنّ الله مكّن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال ، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيمان بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠].
ولام (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨]. وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء ، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنة من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان ، وعن استماع ما أحكم الله به آياته ، فيستمر كفرهم ويقوى.