الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب. فيكون موقع (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) بعد قوله تعالى : (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) كموقع قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) في [سورة الجاثية : ١٢ ـ ١٣].
ويكون في قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إدماجا بين الامتنان والتخويف : فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس ، ومنه ما هو مكروه ، وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الآخرين وأوجز ، فهو لذلك أنسب بالإعجاز.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) استثناء من عموم متعلقات فعل (يُمْسِكُ) وملابسات مفعوله وهو كلمة (السَّماءَ) على اختلاف محامله ، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعا ملابسا لإذن من الله : هذا ما ظهر لي في معنى الآية.
وقال ابن عطيّة : «يحتمل أن يعود قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد (أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذا من قوله تعالى : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] ونحوه فكأنه أراد : إلا بإذنه فيمسكها» اه. يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف.
والإذن حقيقته : قول يطلب به فعل شيء ، واستعير هنا للمشيئة والتكوين ، وهما متعلّق الإرادة والقدرة.
وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة : البرّ ، والبحر ، والجوّ.
وموقع جملة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) موقع التعليل للتسخير والإمساك باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم.
والرءوف : صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة ، وهي صفة تقتضي صرف الضر.
والرّحيم : وصف من الرحمة ، وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه. وقد تتعاقب الصفتان ، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه.