وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله ، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن ، منها قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥]. ووصفه الدين بالحنيف ، وقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «بعثت بالحنيفيّة السّمحة».
والحرج : الضيق ، أطلق على عسر الأفعال تشبيها للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية كما هنا.
والملّة : الدين والشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في [سورة النحل : ١٢٣]. وقوله : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) في [سورة يوسف : ٣٨].
وقوله (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلىاللهعليهوسلم وهذا لم يستتب لدين آخر ، وهو معنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنا دعوة أبي إبراهيم» (١) أي بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم ، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومعلوم أن للإسلام أحكاما كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم ، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم ، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) على الحال من (الدِّينِ) باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم.
ثم إن كان الخطاب موجّها إلى الذين صحبوا النبي صلىاللهعليهوسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة ، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المضرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين ؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قبل الأمهات.
وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] ، ولأنه أبو النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ
__________________
(١) رواه أبو داود الطيالسي عن عبادة بن الصامت.