والذكر أصله : خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه. ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله ، فقوله تعالى (لِلْمُتَّقِينَ) يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول ، أي الذين اتصفوا بتقوى الله ، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه ، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربّهم. ويجوز أن يكون اللام للعلة ، أي ذكر لأجل المتقين ، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين.
ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بيانا بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) وهو على نحو قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في [سورة البقرة : ٢ ـ ٣].
والباء في قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) بمعنى (في). والغيب : ما غاب عن عيون الناس ، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس.
والإشفاق : رجاء حادث مخوف. ومعنى الإشفاق من الساعة : الإشفاق من أهوالها ، فهم يعدّون لها عدّتها بالتقوى بقدر الاستطاعة.
وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ). فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهؤلاء هم فرعون وقومه.
وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه ، وهو المقابلة بقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).
واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته. ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في [سورة النحل : ٤٤].
ووصف القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير ؛ فالقرآن كلّه خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته ، وهو أيضا خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية ، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحدّاهم النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك فما استطاعوا. وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان ، وانتفع به من آمنوا به وفريق