إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بواح لا شبهة فيه ، وأكد ذلك بوصفه ب (مُبِينٍ). فلما ذكروا له آباءهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سنن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة.
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالا ، وإيقانهم أن آباءهم على الحق ، شكّوا في حال إبراهيم أنطق عن جد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) ، فعبروا عنه (بِالْحَقِ) المقابل للعب وذلك مسمى الجدّ. فالمعنى : بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح ، فاستفهموا وسألوه (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ). والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحا ، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّف معه وتجنب نسبته إلى الباطل استجلابا لخاطره لما رأوا من قوة حجته.
وعدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكنا في اللعب ومعدودا من الفريق الموصوف باللعب.
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) لإبطال أن يكون من اللاعبين ، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات ، أي وليست تلك التماثيل أربابا إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلّا مربوبة مخلوقة وليست أربابا ولا خالقة. فضمير الجمع في قوله تعالى (فَطَرَهُنَ) ضمير السماوات والأرض لا محالة.
فكان جواب إبراهيم إبطالا لقولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) مع مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق. وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.
وقوله تعالى : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) إعلام لهم بأنه مرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم ، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.