ومعنى كون القرآن أحسن الحديث أنه أفضل الأخبار لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان ، والتشريع ، والاستدلال ، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات ، وعجائب تكوين الإنسان ، والعقل ، وبثّ الآداب ، واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق ، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغين حدّ الإعجاز ، ومن كونه مصدقا لما تقدمه من كتب الله ومهيمنا عليها. وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر.
الوصف الثاني : أنه كتاب ، أي مجموع كلام مراد قراءته وتلاوته والاستفادة منه ، مأمور بكتابته ليبقى حجة على مرّ الزمان فإنّ جعل الكلام كتابا يقتضي أهمية ذلك الكلام والعناية بتنسيقه والاهتمام بحفظه على حالته. ولما سمّى الله القرآن كتابا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأمر كتّاب الوحي من أصحابه أن يكتبوا كل آية تنزل من الوحي في الموضع المعيّن لها بين أخواتها استنادا إلى أمر من الله ، لأن الله أشار إلى الأمر بكتابته في مواضع كثيرة من أولها قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ)(١)(مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] وقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨].
الصفة الثالثة : أنه متشابه ، أي متشابهة أجزاؤه متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها ، فهي متكافئة في الشرف والحسن (وهذا كما قالوا : امرأة متناصفة الحسن ، أي أنصفت صفاتها بعضها بعضا فلم يزد بعضها على بعض ، قال ابن هرمة :
إني غرضت إلى تناصف وجهها |
|
غرض المحب إلى الحبيب الغائب |
ومنه : قولهم وجه مقسّم ، أي متماثل الحسن ، كأن أجزاءه تقاسمت الحسن وتعادلته ، قال أرقم بن علباء اليشكري :
ويوما توافينا بوجه مقسّم |
|
كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم |
أي بوجه قسّم الحسن على أجزائه أقساما.
فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها وابتنائها على الحق والصدق ومصادفة المحزّ من الحجة وتبكيت الخصوم وكونها صلاحا للناس وهدى. وألفاظه متماثلة في الشرف والفصاحة والإصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظما ، وبذلك كان معجزا لكل بليغ عن أن يأتي بمثله ، وفي هذا
__________________
(١) في المطبوعة (إنه لقرآن) ، وهو خطأ.