إشارة إلى أن جميع آيات القرآن بالغ الطرف الأعلى من البلاغة وأنها متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها ، وأما تفاوتها في كثرة الخصوصيات وقلتها فذلك تابع لاختلاف المقامات ومقتضيات الأحوال ، فإن بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال ، والطرف الأعلى من البلاغة هو مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال ، فآيات القرآن متماثلة متشابهة في الحسن لدى أهل الذوق من البلغاء بالسليقة أو بالعلم وهو في هذا مخالف لغيره من الكلام البليغ فإن ذلك لا يخلو عن تفاوت ربما بلغ بعضه مبلغ أن لا يشبه بقيته ، وهذا المعنى مما يدخل في قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، فالكاتب البليغ والشاعر المجيد لا يخلو كلام أحد منهما من ضعف في بعضه ، وأيضا لا تتشابه أقوال أحد منهما بل تجد لكل منهما قطعا متفاوتة في الحسن والبلاغة وصحة المعاني. وبما قررنا تعلم أن المتشابه هنا مراد به معنى غير المراد في قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] لاختلاف ما فيه التشابه.
الصفة الرابعة : كونه مثاني ، ومثاني : جمع مثنّى بضم الميم وبتشديد النون جمعا على غير قياس ، أو اسم جمع. ويجوز كونه جمع مثنى بفتح الميم وتخفيف النون وهو اسم لجعل المعدود أزواجا اثنين ، اثنين ، وكلا الاحتمالين يطلق على معنى التكرير. كنّي عن معنى التكرير بمادة التثنية لأن التثنية أول مراتب التكرير ، كما كني بصيغة التثنية عن التكرير في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ، وقول العرب : لبّيك وسعديك ، أي إجابات كثيرة ومساعدات كثيرة.
وقد تقدم بيان معنى (مَثانِيَ) في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) في سورة [الحجر : ٨٧] ، فالقرآن مثاني لأنه مكرر الأغراض.
وهذا يتضمن امتنانا على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها ، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبل. ويتضمن أيضا تنبيها على ناحية من نواحي إعجازه ، وهي عدم الملل من سماعه وأنه كلما تكرر غرض من أغراضه زاده تكرره قبولا وحلاوة في نفوس السامعين. فكأنه الوجه الحسن الذي قال في مثله أبو نواس :
يزيدك وجهه حسنا |
|
إذا ما زدته نظرا |
وقد عدّ عياض في كتاب «الشفاء» من وجوه إعجاز القرآن : أن قارئه لا يملّه وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة ، لا يزال غضا طريا ، وغيره من الكلام ولو بلغ من الحسن والبلاغة مبلغا عظيما يمل مع الترديد