به البدن من الرّزق النّباتىّ الّذى يدخل من طريق الفم الى المعدة ، ومنها الى الكبد ، ومنه الى الاوردة ، ومنها الى الأعضاء ، والرّزق النّباتىّ الحقيقىّ هو الّذى يدخل في خلل الأعضاء بدلا عمّا يتحلّل منها وباقي المراتب السّابقة قوالب لهذا الرّزق كما انّ البساتين محالّ للاثمار ، ومن الرّزق الحيوانىّ الّذى يدخل من طريق المدارك الحيوانيّة الى القلب أو من طريق المحرّكة اليه فانّ أعضاء السّبعية والحيوانية مقتضياتها تؤثّر في القلب اعنى الخيال ، وكلّما يؤثّر في القلب من الملذّات والمولمات كما يؤثّر في الرّوح يؤثّر في البدن ، وممّا يستكمل به الرّوح من الرّزق الحيوانىّ ومن الرّزق الانسانىّ الّذى هو العلم الباعث على العمل ، والعمل المورث للعمل ، وقوله تعالى : (مِنْها ؛) ظرف لغو متعلّق برزقوا ، ولفظ من ابتدائيّة فانّ في رزقوا معنى الأخذ وهو يقتضي الوصول الى المفعول بمن ، ومن ثمرة بدل منه بدل الاشتمال وهذا اولى ممّا قاله الزمخشرىّ والبيضاوىّ في اعرابهما من جعلهما حالين متداخلين من رزقا ، ولفظ ثمرة لكونه بعد كلّما يقتضي العموم البدلىّ ، ورزق الجنّة ليس كالرّزق النّباتىّ لعدم الحاجة هناك الى بدل ما يتحلّل ولعدم اشتماله على الثفل المحتاج الى الدفع (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) اى في الدّنيا.
اعلم انّ كلّما في الدّنيا من السّماويّات والارضيّات صور وأظلال لما في الآخرة ، وما في الآخرة حقايق لما في الدّنيا فالعناصر ومواليدها والأفلاك وكواكبها حقائقها في الجنّة وليس في الجنّة شيء الّا وظلّها في هذا العالم ، ولمّا كان شيئيّة الشّيء وشخصيّة الشّخص بحقيقته لا بصورته وظلّه فكلّما رأى المؤمنون في الجنّة علموا أنّه الّذى رأوه في الدّنيا لكنّه في الدّنيا مشوب بنقائص الموادّ وأعدامها وظلماتها وفي الآخرة مصفّى عن ذلك فكلّما رأوه من الاثمار قالوا : هذا الّذى رزقنا من قبل في الدّنيا ، ويحتمل ان يكون الكلام على الاستفهام الانكارىّ التعجّبىّ يعنى بعد ما رأوا الرّمّانة الاخرويّة مثلا ، متفاوتة مع الرّمّانة الدّنيويّة تفاوتا عظيما في الشّكل واللّون والطّعم ورأوا أنّها هي الرّمّانة الّتى رأوها في الدّنيا تعجّبوا واستغربوا ذلك التّفاوت العظيم وأظهروا كونها من جنس الرّمّانة الّتى كانت في الدّنيا في معرض الإنكار ، ويحتمل ان يكون المراد من قبل هذه المرّة في الجنّة فانّ ثمار الجنّة متشابهة في الصّفاء عن الكدورات والأثقال وفي غاية اللّطافة واللّذّة وطيب الرائحة وعدم ثقل الجسد بأكلها ومتوافقة غير مختلفة في كون بعضها نيّا وبعضها نضيجا وبعضها متجاوزا حدّ النضج وبعضها معيبا كما انّ ثمار الدّنيا كذلك وبهذا التّشابه والتّوافق يصحّ حمل : الّذى رزقنا من قبل ؛ على هذا بحمل هو هو مثل زيد أسد (وَأُتُوا بِهِ) بجنس الرّزق أو بجنس ثمر الجنّة (مُتَشابِهاً) بعض افراده مع بعض وقد مضى وجه التّشابه (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) جمع الزّوج يستوي فيه الذّكر والأنثى والجمعيّة بالنّسبة الى المجموع أو بالنّسبة الى كلّ فرد (مُطَهَّرَةٌ) من المادّة ونقائصها ممّا يستقذر من النّساء من الأخبثين والدّماء وممّا يذمّمن عليه من الرّذائل (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) ذكر تعالى من النّعم أصولها في الانظار الحسّيّة وهي المساكن والمطاعم والمناكح وكمالها وهو دوامها فان النّعمة وان كانت جليلة لكنّها مع خوف الزّوال منغّصة.
(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) الحياء قوّة رادعة عن إظهار القبيح ومخجلة حين ظهوره وقد يطلق على أثرها الظّاهر منها على الأعضاء كسائر السّجايا ، والاستحياء للمبالغة لا للطلب أو للطلب باعتبار أنّ المستحيى كأنّه يطلب الحياء من نفسه ، ونسبة الحياء والاستحياء الى الله تعالى ليس بمعنى نسبته الى الخلق كسائر ما يقتضي انفعالا وتغييرا