مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
وكان كل من يهمه أمر القرآن ، من مشرك أو مؤمن ، يترقب نتيجة هذا التحدي ، ويتمنى كل مشرك لو أنه وقع ، إلا أنه لم يقع طيلة فترة القرآن المكي قبل الهجرة ، على ما بيناه.
وبعد الهجرة نزلت آيات القرآن الكريم ، ليس فقط بالتحدي للمشركين بسورة واحدة من سور القرآن ، بل بأمر آخر أعجب وأغرب ، وفيه دلالة قاطعة أخرى على إعجاز القرآن ، وأنه ليس من صنع البشر ، ألا وهي الجزم بأن القرآن لن يعارض ، ولو في سورة واحدة من سوره ، فقال تعالى في سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ تَفْعَلُوا ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).
إن التحدي لم يعد قاصرا على معارضة القرآن ، وإنما أصبح بأمر آخر غيبي ، لا يمكن لأحد من البشر أن يتنبأ به بمثل هذا الجزم وهذا التأكيد ، ألا وهو أن هذا القرآن لن يتحدى ، وبأن العرب وكل من في الأرض ، وبكل تأكيد سيعجزون عن معارضة القرآن إلى يوم القيامة.
أما الشق الأول من التحدي ، وهو التحدي بمعارضة القرآن ، ولو بسورة واحدة من أقصر سوره ، فقد ثبت عجز العرب عنها كما رآه وأدركه كل عربي من المشركين والمؤمنين على السواء ، وكما اعترف به أساطين الشرك وزعماء البلاغة والبيان في مكة ، على ما ذكرناه من قبل ، مما ثبت معه إعجاز القرآن.
وأما الشق الآخر ألا وهو الجزم بأمر غيبي ، فلا سبيل لأن يدركه أحد ممن عاصر نزول القرآن وقيام التحدي ، وربما وقع في نفوس بعض المشركين أو المعادين للإسلام من اليهود والنصارى والمنافقين ، ربما وقع في نفوس بعضهم أنه إذا لم يتمكن أهل الجيل الأول من معارضة القرآن ، فإنه من المحتمل أن يعارضه أهل الجيل الثاني ، وهذا احتمال يقبله العقل المجرد ولا يدفعه.