قالت المعتزلة : قد أراد الله ـ تعالى ـ توبة من لا يتوب ؛ فيقال لهم : ما التوبة (١)
__________________
(١) التوبة : في اللغة : الرجوع ، وفي الشرع : الندم على معصية من حيث هي معصية مع عزم ألا يعود إليها. وفي شرح المقاصد : ومعنى الندم ـ تحزن وتوجع على أن فعل ، وتمنى كونه لم يفعل ، فمجرد الترك بدون الندم ـ ليس بتوبة. إنما قلنا على معصية ؛ لأن الندم على الطاعة أو المباح لا يسمى توبة. وإنما قلنا من حيث هي معصية ؛ لأن من ندم على شرب الخمر ؛ لما فيه من الصداع وخفة العقل إلى غيرهما من المفاسد ـ لا يكون نائبا شرعا. قال في شرح المقاصد : وأما الندم ؛ لخوف النار أو طمع الجنة ـ فهل يكون توبة؟ فيه تردد ؛ بناء على أنه هو الباعث ، أو الباعث قبحها لكونها معصية ، وهو تابع له ، وكذا وقع التردد في كون الندم ـ على المعصية بقبحها مع غرض آخر ـ توبة ، والحق أن جهة القبح إن كان بحيث لو انفردت لتحقق الندم ـ فتوبة ؛ وإلا فلا. انتهى.
وقوله : «مع عزم ألا يعود إليها» زيادة تقرير للندم ، وليس بقيد احترازي ؛ لأن النادم على أمر لا يكون إلا عازما على عدم العود. وقيل : إن النادم على فعله في الزمان الماضي قد يريد في وقت الندم أن يفعله في الحال والاستقبال ؛ فهذا القيد احتراز عنه ، وردّ بأن الندم على المعصية من حيث هي معصية يستلزم ذلك العزم ، كما لا يخفى ، وزاد البعض في آخر هذا التعريف قوله : «إذا قدر» ، وقال صاحب المواقف : وقولنا «إذا قدر» ؛ لأن من سلب منه القدرة على الزنا ، وانقطع طمعه عن عودة القدرة إليه : كالمجبوب إذا عزم على تركه لم يكن ذلك منه توبة. وكلام صاحب المواقف مبني على أن قوله : «إذا قدر» ـ ظرف للعزم ، وقال شارح المقاصد : ما ذكر صاحب المواقف ليس على ما ينبغي ؛ لإشعاره بأنه لا بد من التوبة من بقاء القدرة. وقد صحح التعريف في شرح المواقف والمقاصد ـ بأن قوله : «إذا قدر» ـ قيد للترك المستفاد من قوله : «لا يعود إليها» ، أي : يجب العزم على أن يترك المعصية على تقدير القدرة ؛ حتى يجب على من عرضت له الآفة : كالجب ـ يعزم على أن يتركها لو فرض وجود القدرة. أقول : قد ظهر من هذا أن مثل المجبوب إذا عزم على ترك الفعل فقط ، ولم يعزم على تركه على فرض وجود القدرة ؛ بل وجد من نفسه أنه لو فرض وجود قدرته ينتفي منه العزم ـ لا تصح توبته. قال شارح المقاصد : وقد شاع في عرف العوام إطلاق اسم التوبة على إظهار العزم على ترك المعصية في المستقبل ، وليس من التوبة في شيء ؛ إذ لم يتحقق الندم والأسف على ما مضى ، وعلامته : طول الحسرة والحزن وانسكاب الدمع ، أي : انصبابه.
شرط المعتزلة في التوبة أمورا ثلاثة :
أولها : الخروج عن المظالم ؛ فإنهم قالوا : شرط صحة التوبة عن مظلمة الخروج عن ثلاثة عن تلك المظلمة يرد المال ، والاستبراء منه ، أو الاعتذار إلى المغتاب واسترضائه أن بلغته الغيبة ونحو ذلك.
وثانيها : ألا يعاود الذنب الذي تاب عنه.
وثالثها : أن يستديم الندم على الذنب المتوب عنه في جميع الأوقات.
وليس شيء من هذا واجبا عندنا في صحة التوبة.
أما الخروج عن المظالم : فقد قال الآمدي : إن من أتى بالمظلمة : كالقتل والضرب مثلا فقد وجب عليه أمران : التوبة ، والخروج عن المظلمة : وهو تسليم نفسه مع الإمكان ؛ ليقتص منه. ومن أتى أحد الواجبين ـ لم تكن صحة ما أتى به متوقفة على الإتيان بالواجب الآخر : كما لو وجب عليه صلاتان ؛ فأتى بإحداهما دون الأخرى. قال في شرح المقاصد قال إمام الحرمين : ربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغصب ؛ فإنه لا يصح الندم عليه مع إدامة اليد على المغصوب ؛ ففرق بين القتل والغصب ؛ أقول : وذلك أن المال المغصوب ما دام ـ