تَكُونَ تِجارَةً)
الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى ؛ لأنه استثنى التجارة عن تراض من أكل المال بالباطل بينهم ، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة ، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل ، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز؟! لكنه يحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون على الابتداء والائتناف ؛ كأنه قال : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم ؛ وعلى ذلك يخرج قوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] استثنى السلام ، والسلام ليس من جنس اللغو ، لكن معناه ما ذكرنا : لا يسمعون فيها لغوا ، ولكن يسمعون فيها سلاما.
ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ) [الحجر : ٥٨ ـ ٥٩] دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصّة ؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وفي غيرهم أقوام مجرمين (١) ؛ دل الثنيا على مراد الخصوص ؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم ـ على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض ، وإن كان ـ في الحقيقة ـ يصير مال هذا بمال هذا ، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه ؛ فيلزمه بدله ؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصا ؛ فهو ـ في الحقيقة ـ تجارة.
أو يحتمل : أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب ؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين ؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا ـ كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب ، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب.
وفيه دليل : أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل ، وترك الشيء بالشيء ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر ، ثم سمى ذلك تجارة بقوله ـ تعالى ـ : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة : ١٦].
وفيه دلالة : أن البيع يتم بوقوع التراضى بين المتبايعين ، وليس كما قال قوم : لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان ؛ فكانوا تاركين ـ عندنا ـ لظاهر هذه الآية ، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «المتبايعان بالخيار ما لم
__________________
(١) في الأصول : وفي غيرهم من أقوام مجرمين.