وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى)(١) قيل فيه بوجهين :
قيل : أراد بالقسمة : قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت (٢).
وقيل : أراد به : قسمة الموصى وهو الإيصاء ، يوصى ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين (٣) بشيء ؛ فالخطاب للموصى.
ومن قال بقسمة المواريث : فالخطاب للورثة إن كانوا كبارا ، يعطون لهؤلاء شيئا ،
__________________
(١) قال القرطبي (٥ / ٣٣ ـ ٣٤) : بين الله ـ تعالى ـ أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيرا ؛ والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ؛ درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة ؛ قاله ابن عباس.
وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير ، وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري.
وروي عن ابن عباس أنها منسوخة ، نسخها قوله ـ تعالى ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١]. وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية.
وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك. والأول أصح ؛ فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير : ضيع الناس هذه الآية. قال الحسن : ولكن الناس شحوا.
وفي البخاري عن ابن عباس في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) [النساء : ٨] قال : هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت! ولكنها مما تهاون بها ؛ هما واليان : وال يرث ، وذلك الذي يرزق ، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أملك لك أن أعطيك. قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ، ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث. قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير ، والشكر لله عزوجل. وقالت طائفة : هذا الرضخ واجب على جهة الفرض ، تعطى الورثة لهذه الأوصاف ما طابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب.
وقال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٤٤) : وأخرج سعيد بن منصور عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيعهن كثير من الناس : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ، وآية الاستئذان ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ، وقوله : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، الآية. وقد ذكر هنا كثير من المفسرين آثارا عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية الميراث. وهي من الضعف بمكان. ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة. وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث ، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل ، وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعف ولا يساعد. فالآية بينة بنفسها ، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة ، لا تنسخ أو تقوم الساعة.
(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٣) (٨٦٨٧) عن ابن عباس.
وذكره السيوطي في الدر ٢ / ٢١٩ وزاد نسبته لابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه ، عن ابن عباس.
(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ١١) (٨٦٨٥) عن سعيد بن المسيب.