والثاني : أنه معروف في الديون ، وكذلك حكم الصدقات ؛ إذ لا يقع له الثواب في الدنيا ربما يقع لغير المعروفين ؛ فيكون فعلهم ـ في الحقيقة ـ لله ، لا لابتغاء الجزاء ، فسمي صدقة ؛ إذ هو اسم لما يقع من المعروف لله مع ما يتمكن في ذلك أن العقل ليس شرطه الغناء الذي له يجب الزكوات ، وغير ذلك النوع من الغناء لا يخرج أهله عن احتمال الصدقة ، بل جعل على أهل الديوان ، وهم الذين أموالهم هي التي تخرج بحق العطايا يؤخذ لوقت الخروج ، لا بعد الوقوع بالملك ، وتمام شرط الغناء له ، وفي هذا صرف الثنيا إلى الذي يلي من الكلام دون الذي تقدم ، وحمله على بعض الكلام دون الكلام ؛ ليعلم أن موقع الفهم عن الحكم على ما يقتضيه حق الحكمة دون الذي ينتهي إليه حق اللسان ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : يكون الرجل مؤمنا وأهله (١) كفار في دار الحرب ، فيقتله مسلم ، فلا دية عليه ، ولكن عليه عتق رقبة مؤمنة (٢).
وعنه ـ أيضا ـ قال : كان الرجل يسلم ، ثم يأتي قومه فيقيم فيهم ، ثم يمر بهم الجيش من المسلمين ؛ فيصاب فيمن يصاب ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).
وقال بعضهم : كيف يكون للمؤمن المقيم في دار الحرب دية ؛ وأولياؤه حرب لنا؟ فهل يجوز أن تعطى لهم الدية ونحن نغتنم أموالهم؟ فإن قيل : تكون الدية لبيت المال ، قيل له : إنما يجوز أن تكون لبيت المال من لو كان حيّا ـ كان له في بيت المال حق ، فأما المسلم المقيم في دار الحرب فلا حق له في بيت المال ؛ لأن حكمنا لا يجري على داره ، فكيف يستحق بيت المال ديته (٣)؟!
وبعد : فإن المسلم في دارهم لم يصر بالإسلام محرزا نفسه وماله ؛ لأن دار الحرب ليست (٤) بدار يحرز بها الدماء والأموال ، فإذا كان كذلك فلم يكن للأنفس والأموال هنالك بدل ؛ لذلك لم تجب الدية ، ألا ترى أنّ من أتلف مال ذلك المسلم لم يغرم
__________________
(١) في ب : وقومه.
(٢) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٩) (١٠١٠٨) (١٠١١١).
(٣) في أ : دية.
(٤) في أ : ليس.