ثم لا يحتمل أن يكون الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ قالوا ذلك رأيا من أنفسهم ؛ لأن هذا باب ما لا يوقف إلا بالسمع والخبر من الله ـ تعالى ـ فيجعل كأنهم جميعا سمعوا ذلك من رسول الله صلىاللهعليهوسلم في وقت واحد ؛ فدل أنه في وقتين مختلفين ، فهو على التناسخ ، فلم يظهر الأول منهما من الآخر ؛ فأوجب الأخف باليقين ، ولم يوجب الأغلظ بالشك ، وهذا قول أبي حنيفة ـ رحمهالله ـ حيث قال في شبه العمد بالأرباع ، وأما محمد ـ رحمهالله ـ فإنه ذهب إلى ظاهر الخبر المرفوع بالأثلاث.
ثم اختلف أصحابنا ـ رحمهمالله ـ فيمن رمى آخر في بحر فغرق فمات :
قال أبو حنيفة (١) ـ رحمهالله ـ : لا يقتل به.
وقال فيمن أحرق آخر بالنار : قتل به ، وكان يفرق بينهما بوجهين (٢) :
__________________
(١) ذهب الحنفية إلى أن القتل لا يعتبر عمدا إلا إذا ارتكب بآلة قاتلة ، ويشترط الإمام أبو حنيفة أن تكون الآلة محددة ؛ فإن لم يكن القتل بذلك ـ لا يعتبر عمدا عنده ، ولم يستثن من غير المحدد إلا النار ؛ فاعتبر القتل بها عمدا ؛ لأنها تعمل عمل السلاح ، وفي رواية الأصل عنه : أن العبرة للحديد وإن لم يكن محددا.
كما أن الحنفية لم يعتبروا القتل بالتسبب ـ من العمد.
والظاهرية يعتبرون القتل عمدا ؛ متى كان نتيجة اعتداء بما يحتمل الموت منه ، أما الاعتداء بما لا يموت من مثله أحد عادة ـ فليس عندهم من العمد ولا من الخطأ ؛ وإنما هو هدر ولا شيء فيه إلا الأدب. وقد وافقهم الشافعية في اعتبار الموت بما لا يموت من مثله أحد هدرا ؛ لأنه لا يمكن إحالة الهلاك عليه عادة.
وقد ذهب المالكية في الرواية المشهورة عندهم إلى أن القتل يعتبر عمدا ؛ متى كان الفعل قاتلا ، سواء كان الاعتداء على سبيل العداوة أو اللعب ، أما إذا كان الفعل لا يقتل غالبا ـ فيعتبر القتل خطأ : إن كان الاعتداء على سبيل اللعب أو التأديب ، ويعتبر عمدا : إن كان على سبيل العداوة أو الغضب.
وأما الرواية التي تثبت شبه العمد فيكون الاعتداء بما لا يقتل غالبا ـ شبه عمد ؛ كما ذهب إلى ذلك جمهور. وقد ثبت شبه العمد بالسنة وبالمعقول ، وهو أن الاعتداء على الإنسان بما لا يقتل غالبا ـ دليل على عدم قصد القتل.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن أي وسيلة تقتل غالبا تجعل القتل عمدا ، ولا فرق عندهم بين الجارح والمثقل ، ولا بين التسبب والمباشرة. وهم يكتفون في كون القتل عمدا بأن يفعل المعتدى بالمقتول فعلا الغالب من التلف.
والذي يؤيده الدليل هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والمالكية في إحدى الروايتين عندهم من أنه لا فرق فيما يزهق الروح بين المثقل والمحدد ، ولا بين أن يكون الفعل القاتل تسببا أو مباشرة ؛ ما دام يغلب على الظن حصول الموت به ؛ فالذي يضرب الشخص بمحدد أو بمثقل أو يدفعه لأسد ، أو يقذفه من شاهق ، أو يقدم إليه سما ، فيأكله غير عالم به ؛ فيموت من ذلك ـ يعتبر قاتلا عمدا ؛ ويجب القصاص منه حتى يرتدع الناس عن القتل بهذه الوسائل التي تدل دلالة واضحة عند استخدامها في الاعتداء على توفر نية القتل ؛ فمتى كان الفعل الذي حصل به القتل مما يغلب على الظن حصول الموت به ـ يعتبر القتل عمدا ؛ إذ لا شبهة عند ذلك في قصد القتل به.
ينظر : نهاية المحتاج (٧ / ٢٣٨).
(٢) في ب : في وجهين.